مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

الذهب الصامت.. في قبضة الاتصالات

 

لم يعد الاقتصاد كما نعرفه، فالعالم يشهد تحوّلًا جذريًا من اقتصاد يعتمد على الموارد المادية إلى آخر يقوده إنتاج المعرفة والمعلومة. وفي خضم هذا التحوّل، تبرز شركات الاتصالات كأحد أبرز اللاعبين الجدد في المشهد الاقتصادي، بعدما تجاوزت دورها التقليدي كمزوّد للبنية التحتية، لتصبح كيانات محورية تمتلك أصلًا جديدًا بالغ القيمة يُعرف اليوم بـ «الذهب الصامت»، البيانات.

هذه الطفرة غير المرئية تُعيد تشكيل مفاهيم الثروة، وتفتح الباب أمام تساؤلات حول الدور القادم لهذه الشركات، وحدود تأثيرها، وأدوات تنظيمها. فهذه الشركات، التي تتعامل يوميًا مع كميات هائلة من المعلومات المتدفقة عبر شبكاتها، باتت تشكّل مستودعات ضخمة للسلوك البشري الرقمي، تلامس تفاصيل حياة الأفراد، واتجاهات السوق، وتحوّلات المجتمع، مما يضعها – دون إعلان صريح – في موقع متقدّم كلاعب اقتصادي ذي نفوذ عابر للقطاعات.
إعلان

وليس هذا الاستنتاج افتراضيًا، بل تؤكده المؤشرات الرسمية. فبحسب تقرير الهيئة العامة للإحصاء لعام 2023، بلغت نسبة انتشار الإنترنت في المملكة أكثر من 98,2 %، فيما تجاوز عدد الاشتراكات في خدمات الاتصالات المتنقلة 45 مليون اشتراك، وفقًا لهيئة الاتصالات والفضاء والتقنية. هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن اتصال، بل عن تدفق غير مسبوق للمعلومات القابلة للتحويل إلى فرص اقتصادية حقيقية.

فكل نقرة، وكل موقع جغرافي، وكل نمط استهلاك عبر الأجهزة المحمولة، يولّد معلومة قابلة للمعالجة، قادرة على التنبؤ، والتأثير، والتوظيف الاقتصادي. وهنا ينتقل دور البيانات من كونها منتجًا جانبيًا للعمل التشغيلي إلى جوهرٍ اقتصاديٍّ مستقل، لا يخضع للجمارك، ولا يُقيد بتقلبات البورصات، لكنه يتحكم فيها من الظل.
ويكتمل هذا التحول حين تدخل خوارزميات الذكاء الاصطناعي على خط المعالجة، لتعيد تشكيل هذه البيانات الخام إلى أنماط سلوكية ونماذج توقعية تسمح بفهم السوق قبل أن يتحرك، وتوجيه الحملات التسويقية، بل وحتى التأثير في مخرجات الحملات التوعوية أو السياسات العامة. فالذكاء الاصطناعي هنا لا يكتفي بإنتاج المعرفة، بل يُنتج القدرة على القرار، ويحوّل المعلومة إلى سلطة اقتصادية كامنة.

غير أن هذه القفزة التقنية لم ترافقها قفزة تنظيمية موازية. فحتى الآن، ورغم الجهود التي تبذلها الجهات التنظيمية، لم يُبلور إطار اقتصادي أو قانوني يعيد تصنيف البيانات التجارية كأصل اقتصادي يخضع للتقييم، أو المحاسبة، أو الضريبة. ومع أن المملكة سبّاقة في سن لوائح لحماية البيانات الشخصية – كما هو الحال في نظام «سدايا» – إلا أن هذه اللوائح لا تزال تقف عند حدود الحماية الفردية دون الغوص في البُعد الاقتصادي للبيانات بوصفها موردًا وطنيًا غير مرئي.
وفي ضوء هذا التباين بين النمو التقني والتأطير التشريعي، يصبح من الضروري النظر في ثلاثة مسارات مكملة:
1 – سن إطار قانوني صريح يعترف بالبيانات كأصل اقتصادي، يدرج ضمن الميزانيات ويُعامل كأصول الشركات الأخرى.

2 – إخضاع استخدام الذكاء الاصطناعي التجاري لحوكمة وطنية تضمن الشفافية وتمنع التلاعب بسلوك السوق أو احتكار المعرفة.
3 – تأسيس « كيان سيادي لإدارة واستثمار البيانات العامة «، يُدار بحوكمة مؤسسية، تشارك فيه الشركات الكبرى بهدف استثمار هذه الثروة الرقمية بشكل آمن، منظم، ومستدام.
لقد غدت الحقيقة جلية، من يمتلك المعلومة، يمتلك الاقتصاد. وشركات الاتصالات في السعودية لم تعد تقف على هامش هذه الحقيقة، بل في مركزها تمامًا، أمام مفترق طرق تاريخي، إما أن تستمر كمجرّد مزوّد للبنية التحتية، أو أن تنهض بدور استراتيجي كأعمدة للاقتصاد الذكي القائم على تحليل البيانات والتنبؤ بالسلوك. لكن هذه الفرصة الكبرى لا تأتي من دون مسؤولية جسيمة، إذ إن التحكم في «الذهب الصامت» يستوجب أدوات تنظيم، وحوكمة، وتشريعات تعيد ضبط المشهد، وتمنع تحوّل هذه الثروة غير المرئية إلى سلاح غير خاضع للرقابة.

ويبقى السؤال الأهم؛ هل نملك اليوم، مفاتيح التعامل مع ثروة لا تُرى… لكنها تتحكم في كل ما نراه؟

 

م. سطام ال سعد
عضو جمعية إعلاميون

Sattam_Alsaad@

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop