مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

جدلية الإرادة في ظل العقل والضرورة

 

قضية تحديد الإرادة واحدة من أكثر الموضوعات إشكالية في الفلسفة، حيث تتشابك فيها أبعاد العقلانية والحرية والإرادة الحتمية بشكل معقد جدًا، يدفعنا للتساؤل عن مدى حقيقة ما نعتبره حرية إرادة، وإذا ما كان الإنسان قادرًا على تجاوز قوانين معينة فرضت عليه في العمل مثلا، أو القوانين الأسرية التي كان خاضعًا لها منذ ولادته، فهنا تظهر الحتمية كعقيدة فكرية، تعتبر أن كل أفعالنا وأفكارنا خاضعة لحلقة سببية لا تنفصل عن النظام الكوني الذي نحن جزء منه، وبالتالي فإن الحرية كما نفهمها قد تكون مجرد وهم متقن الصنع.

أنا واثق أن مطلع المقال مبهم بعض الشيء؛ لهذا سأستعير بعض الأمثلة الحياتية الواقعية التي ينطبق عليها مدار المقال؛ فعلى سبيل المثال بعض القرارات العالمية الاقتصادية الحديثة تستند قبل صدورها إلى نماذج رياضية وتوقعات مبنية على البيانات، حيث تتخذ البنوك قرارات برفع أسعار الفائدة أو خفضها، وعلى الأرجح القرار عقلاني جدًا؛ لأنه اعتمد فعليًا على تحليل البيانات الاقتصادية الحالية، ومع ذلك فإن القرار يؤثر على حياة الملايين من الأفراد، الذين قد يجبرون على تغيير سلوكهم الاقتصادي نتيجة لهذا القرار، فهنا تظهر الإرادة الحتمية في أبهى صورها، حيث إن حرية الأفراد مقيدة بنتائج قرارات تتخذ بناء على سياقات سببية تفوق إرادتهم.

وفي مثال آخر يعكس العلاقة بين العقلانية والحرية في ضوء الإرادة الحتمية، فيمكننا أن ننظر إلى تأثير التكنلوجيا على اختيارات الإنسان اليوم، حيث أصبحت منصات التواصل مثالا بارزًا على كيفية العقلانية والحرية مع الحتمية في حياتنا اليومية، فعلى هذه المنصات نحصل على حرية الاختيار فيما نقرأ ونشاهد ونشارك، ومع ذلك فإن هذه الحرية محكومة بخوارزميات دقيقة تتنبأ بسلوكياتنا وتوجهنا نحو محتوى معين بناءً على اهتماماتنا السابقة وسلوكياتنا الرقمية.

 

هذه الخوارزميات تعمل وفق قوانين سببية صارمة تعتمد على تحليل البيانات، وهي بهذا تشبه إلى حد كبير فكرة الحتمية في الفلسفة الكلاسيكية، حيث إن كل خيار نقوم به يكون ناتجًا من معطيات سابقة، مما يجعل حريتنا هنا ظاهريًا أكبر، لكنها في الحقيقة محدودة بأطر رقمية «غير مرئية» حالها حال الاعلانات التي تظهر امامك والتي اغلبها تتطابق مع متطلباتك في الاختصاص في حين تظهر لأناس اخرين اعلانات مختلفة تنجذب إلى اهتماماتهم، فكل هذه الإعلانات بنيت وفق تحليل ذكي لسلوكك، واهتماماتك السابقة على الموقع.

هذه الأمثلة الحية توضح أن العقلانية التي تبدو كوسيلة لتحقيق الحرية قد تكون في أغلب الأحيان قيدًا حتميًا بحد ذاته، وحينها ستصبح اختياراتنا محكومة بشبكة معقدة من الآليات التي تعمل خلف الكواليس، مما يجعل التساؤل عن طبيعة الحرية أكثر أهمية وإلحاحًا في عالمنا الجديد كليًا هذا.

البعض ذهبت آراؤهم إلى أن الحرية الحقيقة لا تعني انعدام القيد، وإنما تعني القدرة على العمل وفقًا لما يراه العقل مناسبًا، ومع ذلك فإن ما يراه العقل مناسبًا ليس دائمًا اختيارًا حرًا، فهو أيضًا مشروط بما يمكننا معرفته، وبالظروف التي نشأت فيها، وبعضهم ذهب إلى رؤى متشائمة تقول إن الإنسان مسير بالكامل، بواسطة إرادة لا واعية تحكم جميع أفعاله، وأن العقل ليس سوى خادم لهذه الإرادة، وهو ما يقودنا إلى التساؤل عما إذا كانت الحرية مجرد وهم تخفيه طبقات من التبرير العقلاني.

بعض آخر من الفلاسفة قال إن الحرية يمكن أن توجد حتى في ظل الحتمية، وأعزوا ذلك لعالمين الظاهري والباطني، ففي العالم الظاهري نحن خاضعون لقوانين الطبيعة والسببية، ولكن في العالم الباطني فنحن كائنات عقلانية نتمتع بحرية الفعل وفقًا لما يمليه الواجب الأخلاقي، هذه النظرية تفتح أفقًا جديدًا للنظر إلى الحرية، ليس باعتبارها غياب القيد، بل باعتبارها التزامًا طوعيًا بقانون داخلي ينبع من العقل الأخلاقي، فهنا تصبح الحرية ليست عكس الحتمية، بل تكمن في القدرة على اتباع ما يمليه علينا العقل، دون تدخل من الميول والرغبات العابرة.

أغلب الآراء السابقة كانت غربية، ولكن في الفلسفة العربية نجد بعض الأصداء لهذه النقاشات، حيث قدم المفكرون العرب رؤى فريدة حول العلاقة بين الإرادة والحتمية، مبينين أن العقل قادر على فهم القوانين الطبيعية التي تحكم العالم، ولكنه في الوقت نفسه يمكن أن يكون وسيلة لتحرير الإنسان من كل هذا إذا ما استخدم عقله لفهم الغايات الأسمى التي يجب أن يسعى إليها، لأن حريته ستتحقق من خلال السعي وليس من خلال الانفصال عن الطبيعة أو تحدي قوانينها.

وفي ضوء الإرادة الحتمية يبدوا أن الحرية ليست شيئًا يمكن فهمه بسهولة كتحرر من المفروض، بل هي حالة معقدة تتطلب توازنًا بين الوعي بقوانين الطبيعة، واستخدام العقل لتوجيه أفعالنا نحو أهداف تكسر المحددات المادية، هنا يكمن جمال المعضلة، حيث إن السعي لفهم الحرية هو بحد ذاته تعبير عن حرية الفكر والاختيار، وهو ما يجعل الموضوع برمته دائم التجدد، وأرضية خصبة للتأمل الفلسفي.

 

أ. سعد أبو طالب
wyq1217351@
عضو جمعية إعلاميون

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop