مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

المجتمع.. الرقيب الأول؟

‏كيف أصبح الإنسان شريكًا في صناعة الإعلام ورقيبًا عليه؟ فبين ضجيج الإشعارات اللامتناهي وسيل المحتوى المتدفق على شاشات هواتفنا النقالة، ثمة تحوّل هادئ وعميق يحدث في علاقة الفرد بالإعلام، حيث لم يعد مجرد مستهلك، بل أصبح لاعباً محوريًا، وحارسًا أمينًا على بوابة الفضاء الرقمي الذي يسكنه الجميع، ليسهم بفعالية في تحقيق ما تصفه الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بأنه “بيئة إعلامية واعية”.

‏قبل سنوات، كان الحديث عن ضبط المحتوى يبدو مهمة مستحيلة، لكن اليوم، نرى الهيئة العامة لتنظيم الإعلام تتبنى فلسفة مختلفة تماماً، تقوم على الثقة والتمكين، إدراكًا منها بأن أقوى نظام رقابي لا يُبنى بالموظفين والقوانين وحدها، بل ببناء شعور بالملكية المشتركة لهذا الفضاء الرقمي.

‏الضوابط التي أعلنتها الهيئة جاءت بمثابة رسم “بوصلة أخلاقية” جماعية، ترسم خطوطًا واضحة للمحتوى غير المقبول، فشملت تفاصيل دقيقة مثل، منع التنمر والسخرية، وتجريم كشف خصوصيات الأسر وخلافاتهم، وتصنف “التباهي بالأموال والممتلكات” و”استخدام الألفاظ المبتذلة” كسلوكيات مخالفة، لتحصن بذلك نسيجنا الاجتماعي، وتحمي عقولنا من وباء المعلومات المضللة.

‏وتأتي منصة “نفذ”، التي يتم الدخول لها عبر البوابة الوطنية الموحدة في منصة النفاذ الوطني الموحد، كتجسيد حي لهذا التحول، فهي الأداة التي حولت شعور الاستياء إلى فعل إيجابي، فبدلاً من أن يكتفي المستخدم بالتذمر، أصبح بإمكانه وبكل سهولة أن يوصل صوته.

‏وما يميز هذه المنصة هو دقتها الشديدة، فالعملية ليست مجرد إرسال شكوى عائمة؛ بل هي عملية تصنيف دقيقة، من خلال قائمة منسدلة بسيطة، يمكن للمستخدم أن يحدد نوع المخالفة بدقة: هل هي “مخالفة لضوابط المحتوى الإعلامي” بشكل عام، أم أنها تتعلق بـ”التعصب الرياضي”؟ أم ربما هي “مخالفة لضوابط الإعلانات”؟

‏وعند اختيار مخالفات الإعلانات مثلاً، تتفرع الخيارات لتكشف عن فهم دقيق لتحديات العصر الرقمي، وأصبح بإمكان أي شخص الإبلاغ عن مؤثر لم يوضح أن المحتوى هو “مادة إعلانية”، أو الإبلاغ عن إعلان لـ”مواد غير مرخصة”، أو حتى ممارسة العمل الإعلامي “بدون ترخيص”، وهذا ما حول كل مواطن إلى رقيب خبير، قادر على تمييز المخالفات الدقيقة التي كانت تمر في السابق دون حسيب.

‏عندما نتأمل المشهد، نجد أن ما يحدث هو أكثر من مجرد تنظيم؛ إنه بناء “حصانة مجتمعية” ضد الفوضى الرقمية، وهذا بالضبط ما تستهدفه رؤية 2030، فهي لا تهدف فقط لبناء اقتصاد مزدهر، بل لتشكيل مجتمع ناضج، واعٍ، ومسؤول.

‏لكن، هل وصلنا إلى المحطة النهائية؟ بالطبع لا، فالتحدي الأكبر يكمن في تحويل هذه المشاركة من مجرد “رد فعل” على المحتوى السيئ، إلى “صناعة فعل” عبر دعم وتشجيع المحتوى الجيد، والعمل على تطوير المنظومة لتصبح أكثر استباقية في رصد المخاطر قبل استفحالها.

‏فمع تسارع المشهد الرقمي، يمكن لهذه البلاغات المصنفة أن تتعمق أكثر لتواكب التحديات المستجدة، لتشمل تصنيفات أكثر تخصصًا، مثل: بلاغات “المسابقات والسحوبات الوهمية”، “انتهاك خصوصية الأسرة والطفل” وأيضا بلاغات “التوصيات المالية والصحية المضللة”، بالإضافة إلى بلاغات “المحتوى المضلل المُنشأ بالذكاء الاصطناعي” كالتزييف العميق (Deepfake)، وغير ذلك، بحيث تكون المنصة جاهزة للتعامل مع تحديات أكثر تعقيداً، ما يعزز دورها كأداة رقابية مرنة ومتطورة، قادرة على التكيف مع عالم رقمي لا يتوقف عن التغير.

‏في النهاية، حديثنا هنا ليس عن هيئة أو منصة، بل عن الفرد الذي قرر أن كل نقرة على زر “تقديم بلاغ” هي في جوهرها تصويت لمستقبل أكثر أمانًا ونقاءً، واللبنة التي يضعها في صرح وطن طموح يؤمن بأن حماية فضائه العام هي مسؤولية لا يمكن أن تُحمَل إلا بسواعد أبنائه جميعاً.

 

د. يوسف الهاجري
‏@aboaadl2030
عضو جمعية إعلاميون

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop