في زمنٍ أصبحت فيه المعلومة سلعة، والاهتمام عملةً ربما أغلى من الذهب، يطفو على سطح المشهد الرقمي نوعًا من المحتوى لا يُقدّم قيمة حقيقية، لكنه يحصد ملايين المشاهدات والنقرات. ذلك هو “المحتوى التافه”؛ تلك الظاهرة العصرية التي تتغذّى على سرعة الإعجاب، وتعيش على ضعف الانتباه.
طبيعة المنصات الاجتماعية وخوارزمياتها لا تفرّق بين معلومة عميقة وصورة مثيرة للجدل؛ ما يهمها هو أن تبقينا متّصلين أطول فترة ممكنة. فكل ثانية يقضيها المستخدم أمام الشاشة تعني إعلانًا إضافيًا وربحًا أكبر. هكذا، صارت الإثارة اللحظية أهم من القيمة، والضجيج أهم من المعنى.
تكاليف إنتاج المحتوى اليوم شبه معدومة، وبذلك تصبح السهولة عدوّ الجودة. فبكل بساطة يمكن بكاميرا هاتف وبعض العناوين الجذّابة لأي شخص أن يصنع “محتوى” يلقى رواجًا، حتى لو كان بلا مضمون.
ومع غياب المعايير الواضحة للجودة، يختلط الغثّ بالسمين، ويضيع صوت المبدعين الحقيقيين وسط صخب المقلّدين والتافهين، ولا يشعر أحد بأهل القيم مع ضجيج الفاسدين.
التصدي للمحتوى التافه مهمة صعبة ولا يمكن الاستهانة بها، ولو فكرنا في تجفيف منابع هذا السيل الرقمي فلا يتحقق ذلك بالمنع، بل بإعادة تصميم الحوافز. ولابد من التعاون والتفاوض مع إدارة هذه المنصّات للمساهمة في كبح المحتوى التافه بتغيير معايير التوصية؛ ومساندتها للمحتوى القيم والمفيد، وتقلّل من انتشار النسخ المكررة والمحتوى المثير و”التافه” الذي بلا معلومات وبلا معنى. كما يمكنها منح المستخدمين أدوات لتقييم الفائدة، لا فقط الإعجاب اللحظي، من دون دور حقيقي ومؤثر.
أما صُنّاع المحتوى، فعليهم مسؤولية أخلاقية ومهنية؛ أن يسألوا قبل النشر، هل أضيف شيئًا جديدًا؟ هل أستند إلى معلومة موثوقة؟ هذه الأسئلة وحدها كفيلة بتحويل الضوضاء إلى حوار، والتكرار إلى إبداع.
في ظل هذه الحالة العجيبة والصراع غير المعلن بين القيم والتفاهة، يبقى الجمهور هو الحلقة الأقوى. فالجمهور نفسه يحمل المفتاح الحقيقي للتغيير، والقادر على التوقف عن مشاركة المحتوى السطحي، ومكافأة الجيد بالتفاعل والمشاركة الواعية.
وفي تقديري هذه هي الخطوة الأهم في معركة استعادة الذائقة الرقمية، فكل “إعجاب” هو تصويت، وكل “مشاركة” قرار بتغذية نوع من المحتوى على حساب آخر.
إن محاربة التفاهة ليست حربًا على الترفيه أو الخفة، بل على الفراغ المغلف بالإثارة، وهذا لا يعني قتل المتعة، بل رفع مستواها. وحين تصبح الجودة عادة، والصدق معيارًا، سنجد أن المحتوى التافه يجف تلقائيًا، لأن التربة التي كان ينمو فيها — جهل المتلقي وطمع المنصة — لم تعد خصبة كما كانت.
كل فرد فينا مسؤول وعنصر مؤثر، لنصر المحتوى القيم، ونبذ المحتوى التافه، فنحن نقدر من يفيدنا لا من يغرقنا في تفاهته، ويسطح مجتمعنا ويجعل التفاهة تمثله بشكل أو بآخر.
د. سعود الغربي
@S_F_Algharbi
مؤسس ورئيس جمعية إعلاميون