مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

حياة مزدوجة

نحن نعيش في شقين من الزمن؛ شق يُرى على وجوهنا، وشق يختبئ بين ضلوعنا. الحياة التي نعرضها للآخرين، مضبوطة، لامعة، واضحة، والحياة التي نحتفظ بها في الداخل، مظلمة، متقلبة، مليئة بصمتنا الحقيقي.
الشارع يرى ابتسامة العامل، لكنه لا يعرف الليل الذي يعكسه على جدران غرفته. الناس تلاحظ حضور الأم في الأسواق، لكنها لا تسمع صرخاتها الخفية كلما خطر لها مستقبل أولادها. الأب يبدو قويًا أمام الجميع، لكنه يختنق في الظل مع كل هم يثقل قلبه. كل هؤلاء يعيشون ازدواجية مضاعفة، حيث الحقيقة الداخلية تتصارع مع الصورة المعروضة للعالم.
حتى الإعلام والكتابة لم يسلموا من الازدواجية: الصحفي يكتب على الصفحات عناوين مأمونة، لكن الحقيقة الأكبر تختبئ خلف خطوط دقيقة لم تُذكر. الكاتب ينسج كلمات مبتكرة، لكنه يخفي الجزء الذي يخيفه من الصدق، لأنه يعلم أن المجتمع غالبًا يرفض مواجهة الظلال الكاملة.
في هذه الحياة المزدوجة، الصمت ليس اختيارًا، لكنه واقع. الواقع يفرض علينا أدوارًا، أقنعة، مهلًا على صبرنا وقدرتنا على فهم أنفسنا. كما يقول الله تعالى:
“وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ” (الإسراء:36)
هذه الآية تذكّرنا أننا مسؤولون عن ما نعيه ونشعر به، وليس فقط عن ما نظهره للآخرين. الصدق مع النفس هو أول خطوة للصدق مع العالم.
في مجتمعنا، نرى هذه الازدواجية كل يوم: الطالب الذي يبتسم في المدرسة بينما يخشى المستقبل الجامعي، الموظف الذي يبدو هادئًا في المكتب بينما تتكدس الديون خلف الباب، المثقف الذي يكتب مقالات بينما يختنق من صدى كلماته في المجتمع. كل هذه التجارب تخلق نسيج الحياة المزدوجة: الظاهر والباطن، القناع والجوهر، الضحكة والصراخ الصامت.
لكن في كل هذا الظلام، هناك شرارة. الاعتراف بهذه الازدواجية هو بداية القوة، هو الضوء الذي يمكن أن يحرق الظلال، هو التحرر من القيود الداخلية. كما يقول المثل العربي القديم:
“من عرف نفسه، عرف قدره في الحياة”
الجرأة تكمن في كشف جزء من وجهنا الحقيقي، مشاركة الألم، السماح للأحلام بالظهور بصوت عالٍ. الحياة المزدوجة ليست مجرد عبء، بل فرصة للنضج، للوعي، ولخلق مجتمع صادق، بعيد عن الأقنعة والخوف.
السؤال الأخير: متى سنسمح لأنفسنا بأن نكون نحن، بلا أقنعة، بلا زيف، بلا صمت؟
أ هويدا المرشود
‏@hofahsaid111111
عضو جمعية إعلاميون
شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop