مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

الوجبات الصحية يا “هيئة الغذاء”

تبدو مطاعم الوجبات الصحية في المملكة اليوم كأنها تبيع طمأنينة أكثر مما تبيع طعامًا. تُقدَّم الأطباق على أنها طازجة ومحسوبة السعرات، لكنها تبقى سليمة يومًا ويومين دون أن تتبدّل رائحتها أو قوامها، وكأن الزمن لا يمرّ عليها. هذه المفارقة تطرح سؤالًا مباشرًا: ما الذي يُضاف إلى تلك الوجبات لكي تصمد بهذه الطريقة، وكيف تُحسب السعرات فعلًا؟

المعادلة التقنية معروفة في علوم الغذاء: إطالة عمر المنتج لا تأتي فقط من التبريد، بل من مزيج من المواد الحافظة والتعبئة المتقدّمة. أكثر المواد الحافظة شيوعًا في الأغذية الجاهزة حول العالم هي بنزوات الصوديوم وملح البوتاسيوم من حمض السوربيك (بوتاسيوم سوربات) وبروبونات الكالسيوم؛ وهي مثبتة الفاعلية ضد العفن والخمائر ضمن حدود حموضة معيّنة ونشاط مائي منخفض، وقد أثبتت الدراسات المختبرية أن بوتاسيوم سوربات يتفوّق غالبًا على نظيريه في كبح نمو العفن عند نسب تصل إلى 0.3%، فيما تتراجع الفاعلية كلما ارتفع الـpH أو زاد النشاط المائي للغذاء. هذه المواد ليست محرّمة بحد ذاتها؛ فمدوّنة «كودكس» (المعيار العام للمواد المضافة إلى الأغذية) تُدرجها وتحدد استعمالاتها القصوى، تمامًا كما تفعل تشريعات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكن الإشكال يبدأ حين تُستخدم خارج الضوابط التطبيقية أو دون إخبار واضح للمستهلك عن طبيعة حفظ المنتج وسلسلة مناولته.

ومع المواد الحافظة، تأتي حيل التعبئة. التعبئة في أجواء معدّلة التي تغيّر نسب الأكسجين وثاني أكسيد الكربون داخل العبوة قادرة على مضاعفة العمر التخزيني لمنتجات خبزية ولحوم مطهية وسلطات مبردة، خصوصًا إذا اقترنت بمقادير دقيقة من المواد الحافظة. هذه التقنيات مشروعة في الصناعة، لكنها حين تُستَخدم في صورة وجبة طازجة يومية دون شفافية، تُربك اختيار المستهلك، وتفتح بابًا لسوء الاستخدام في مطابخ تعتمد بالكامل على التوصيل.

يتضاعف القلق حين ندخل عالم المطابخ المظلمة الافتراضية التي تعمل للتوصيل فقط. هذا النموذج يسهّل دخول العلامات الجديدة، لكنه يصعّب على السلطات والجمهور تتبّع سلسلة الإمداد وممارسات النظافة والتحكم الحراري، خاصةً عندما تشترك علامات متعددة في مطبخ واحد، أو عندما تُدار علامات مختلفة لوجبات صحية من خط إنتاج واحد. دراسات حديثة وتقارير رقابية أشارت إلى تحديات فعلية في مراقبة هذه المطابخ وتطبيق الاشتراطات عليها، ما يستدعي أدوات تفتيش وسجلات رقمية وتتبّع درجات الحرارة في الزمن الحقيقي، بدل الاكتفاء بزيارات تقليدية متقطعة.

على جانب السعرات الحرارية، التجارب الدولية تقدّم دروسًا مهمة. في الولايات المتحدة، ألزمت إدارة الغذاء والدواء سلاسل المطاعم (20 فرعًا فأكثر) بإظهار السعرات منذ 7 مايو 2018، مع متطلبات لبيانات إضافية عند الطلب. الهدف كان تمكين المستهلك من القرار الواعي، لكن الدراسات وجدت أن الدقة متوسّطة جيدًا إجمالًا مع انحرافات كبيرة في بعض الأصناف الفردية، وهو ما يعني أن رقمًا مطبوعًا على القائمة لا يضمن الحقيقة دومًا على الطبق.

في إنجلترا، فُرض وضع السعرات على قوائم المطاعم الكبرى ابتداءً من 6 أبريل 2022، بما يشمل القوائم الرقمية على منصات التوصيل. التقييمات اللاحقة أظهرت أثرًا بسيطًا أو متواضعًا على اختيارات المستهلكين، ما يلمّح إلى أن وضع الرقم وحده لا يكفي من دون منظومة أوسع من المساءلة وإعادة الصياغة الغذائية وتقليل الملح والسكر. ومع ذلك، بقي وجود الأرقام خطوة شفافية أساسية، تمامًا كما فعلت نيويورك سابقًا بملصق الملح التحذيري للأطباق فائقة الصوديوم الذي صمد أمام الطعون القضائية.

في المملكة، مضت هيئة الغذاء والدواء في سياسة وضع السعرات على القوائم وتقييم أثرها على وعي المستهلك، وتتحرك مؤخرًا نحو تعزيز الإفصاح الغذائي بشكل أوسع في القوائم ابتداء من يوليو 2025. هذه خطوة مهمة، لكنها لن تعالج وحدها فجوة الواقع بين صحي مُعلن ووجبة مُصمّمة لتصمد أكثر مما ينبغي. المطلوب الآن حزمة أدوات تنفيذية دقيقة: تفتيش مُمنهج على مطابخ التوصيل والمطابخ المشتركة، إلزام المنصات بإظهار حالة المنتج وطريقة حفظه وتاريخ التحضير الحقيقي، وبرنامج اختبارات مرجعية دورية لسعرات الوجبات يطال العيّنات الأعلى مبيعًا، ويُنشَر ملخّص نتائجه للرأي العام. كما ينبغي أن تُلزَم المطاعم التي تسوّق وجباتها على أنها طازجة يوميًا بالإفصاح إن كانت تستخدم تعبئة في أجواء معدلة أو مواد حافظة مصرحًا بها ضمن الحدود، كي لا يتحوّل الصحي إلى مجرّد شعار تسويقي مرتفع الثمن.

ولأن الأسعار المرتفعة تُبرَّر عادةً بمكونات أنقى وتحضير أدق، فالمعادلة العادلة تقتضي ربط السعر بالشفافية. إذا كانت الوجبة مصممة لتعيش 48 ساعة بأمان، فليُكتب السبب والطريقة: هل هي حموضة مضبوطة وملح أعلى؟ هل هي مواد حافظة ضمن حدود كودكس؟ هل هي تعبئة محكمة بغاز ثاني أكسيد الكربون؟ الشفافية هنا ليست ترفا، بل شرط ثقة. ومن جهةٍ أخرى، تستطيع الهيئة وضع بروتوكول لحساب السعرات تُقدَّم بموجبه تركيبات الوصفات عند طلبها، مع نقاط فحص عشوائية مخبرية تُقارن المعلن بالفعلي كما فعلت جامعات وهيئات بحث في تجارب دولية سابقة.

الخلاصة أن الصحي ليس لافتة، بل منظومة: مكونات مضبوطة ضمن مواصفات، عمليات حفظ وتوصيل شفافة، قوائم صادقة مدعومة باختبارات. التجارب الأمريكية والبريطانية أثبتت أن وضع الأرقام خطوة أولى لا أكثر، وأن الأثر يبقى محدودًا ما لم تُلزم الصناعة بإعادة الصياغة وتقليل المخاطر مثل الصوديوم المفرط، وما لم تُراقَب مطابخ التوصيل التي تعمل بعيدًا عن عين الزبون. هنا يبرز دور هيئة الغذاء والدواء في السعودية: ضبط المصطلحات، توحيد بروتوكولات القياس، تفتيش المطابخ الافتراضية، وإلزام المنصات الغذائية برقابة مشتركة تُشرك السلاسل العالمية والمحلية على حد سواء. عندها فقط يدفع المستهلك سعرًا مرتفعًا وهو يعرف تمامًا ما الذي يشتريه، وطوال كم من الوقت سيبقى طازجًا بحق.

 

د. أصيل الجعيد
AAljaiedlaw@
عضو مجلس إدارة جمعية إعلاميون

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop