في أحد المقاطع التي اجتاحت منصات التواصل مؤخرًا ظهر أبٌ في إحدى الدول العربية ينهال ضربًا على طفلته الصغيرة بعنف لا يليق بإنسان، ولا يمتّ للأبوة بصلة.
كان المشهد مأساويًا، الطفلة تصرخ من الألم والأب يواصل ضربه بلا هوادة وكأن الألم وسيلة للتربية.
ولحسن الحظ تم القبض عليه لاحقًا بعد أن هزّ المشهد ضمير المجتمع العربي، وتحول إلى ملف قضائي يُطالب فيه الجميع بالعدالة والحماية للطفولة.
ذلك المقطع لم يكن حادثة عابرة بل ناقوس خطر يدق في وجدان كل من يظن أن المنزل مجرد مكان للمعيشة لا حضن للأمان والرحمة. آلاف الأطفال يُعاقَبون خلف أبواب مغلقة وتُبرر قسوة بعض الآباء والأمهات تحت شعارات التربية والانضباط، بينما الحقيقة أن الكثيرين يفرغون فشلهم وغضبهم على أجساد بريئة لم ترتكب أي ذنب سوى أنها وُلدت صغيرة وهشة.
ما الذي يجعل إنسانًا يرفع يده على طفلته؟ وما الذي يبرر أن يتحول بيت الأمان إلى مسرح للرعب؟ هذه الأسئلة ليست مجرد فلسفة عابرة ،بل جوهر أزمة اجتماعية ونفسية تتطلب وقفة جادة من الأسرة والمجتمع والدولة معًا.
قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو عقوق ابنه، فاستدعى عمر الولد وأنبهه ثم سأله الولد “يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟” فأجابه عمر: “بلى ،أن ينتقي أمه ويحسن اسمه ويعلّمه القرآن” فقال الولد “أما أبي فلم يفعل شيئًا من ذلك وأمي زنجية لمجوسي قبل أبي وقد سماني جعلاً، ولم يعلّمني من القرآن حرفًا واحدًا!” عندها التفت عمر إلى الأب وقال كلمته التاريخية “جئت تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك”
هذه الحكاية تختصر المبدأ الإنساني الأعظم: الأبوة ليست مجرد إنجاب بل مسؤوليةورحمة وتعليم وكرامة.
من لا يمنح أبناءه هذه الحقوق يكون أول من ارتكب العقوق قبل أن يرتكبه الطفل.
الطفولة ليست مرحلة عابرة ،بل هي الأساس الذي يُبنى عليه الإنسان.
كل صفعة وكل صرخة خوف تُزرع في السنوات الأولى ستنبت لاحقًا على شكل عقدٍ نفسية أو سلوكٍ عنيف.
الطفل الذي يُهان اليوم سيكبر غدًا يحمل كرهًا للعالم ،وقد يكرر دورة العنف التي تربّى عليها.
المؤلم أن بعض المجتمعات ما زالت تتعامل مع ضرب الأطفال كأنه حق طبيعي، وكأن الألم وسيلة للتربية.
في الوقت الذي تسن فيه الدول المتقدمة قوانين صارمة لحماية الطفل ما زلنا نبرر القسوة بعبارات مأثورة كالقول “من العصا جُبل الأدب”،لكن الحقيقة واضحة: من تربّى على الخوف لم يتعلم الحب، ومن تربّى على الألم لم يتعلم الرحمة.
في المقابل يثلج الصدر أن المملكة العربية السعودية قد أثبتت ريادتها في مواجهة العنف الأسري خصوصًا ضد الأطفال، عبر تشريعات واضحة لا تتهاون مع أي تجاوز ،تُعلي من كرامة الإنسان وتحمي الطفولة من أي انتهاك.
لكن القانون وحده لا يكفي ،يظل دورنا كمجتمع وأولياء أمور ومربّين لا يقل أهمية في التوعيةوفي التبليغ عن أي حالة أذى أو عنف، سواء داخل البيوت أو المدارس ،لنكون سدًا منيعًا أمام القسوة ونرسخ ثقافة حماية الأطفال قبل أن تتحول المأساة إلى مأساة أكبر.
الطفل الذي نحتضنه اليوم لن نحتاج أن نطالبه ببرّنا غدًا ،لأنه سيتعلم البرّ من دفء صدورنا، لا من قسوة أيدينا.
اغرسوا فيهم الحب لا الخوف والقدوة لا الألم ،فالرحمة ليست ضعفًا بل جوهر القوة، وما نزرعه اليوم في قلوب الأطفال سنحصده غدًا في وجوه مجتمعنا.
أيها الآباء والأمهات برّوا أبناءكم قبل أن تطلبوا برّكم، وامنحوهم الأمان قبل أن تطالبوا بالطاعة.
فالطفولة وطن أول، وكل لحظة قسوة تُغتال فيه جزءًا من المستقبل ،وكل لحظة حنان تُبني جيلًا قادراً على العطاء والحب.
أ. سعيد الاحمري
@Historian2080
عضو جمعية إعلاميون