في هذا اليوم الثلاثاء 18 نوفمبر، يقود وليُّ العهدِ الأميرُ محمد بن سلمان -حفظه الله- في واشنطن ملفاتٍ تاريخيةً جديدةً في علاقةٍ عمرُها أكثرُ من ثمانيةِ عقودٍ بين الرياض وواشنطن. ما بدأ على متنِ السفينة كوينسي عامَ 1945 باتفاقيةٍ تربطُ الأمنَ الإقليميَّ بتدفّقِ نفطِ المملكة، يتّجه اليوم ليتحوّل إلى صيغةٍ أوسعَ وأعمق، عنوانُها الشراكةُ الاستراتيجيةُ من أجل التنميةِ والاستقرار.
وتأتي الزيارة في زمنِ قوّةِ وزخمِ رؤيةِ المملكة 2030، وفي ظلِّ تحوّلاتٍ عميقةٍ يشهدها الشرقُ الأوسط، وفي سياقٍ عالميٍّ متغيّرٍ تحكمه سلاسلُ إمدادٍ معقّدة، وسباقٌ تقنيّ، وأزماتُ طاقةٍ ومناخٍ. وأمام هذا المشهد، تسعى الرياضُ إلى أن تنتقلَ العلاقةُ من بُعدٍ واحدٍ إلى شراكةٍ مركّبةٍ تقوم على منظومةٍ دفاعيةٍ وهجوميةٍ تردعُ وتحمي، وطاقةٍ تقليديةٍ ونوويةٍ سلميّةٍ تضمن أمنَ الإمداداتِ والبيئةَ معًا، ومحورٍ استثماريٍّ وتقنيٍّ في الذكاء الاصطناعي والفضاءِ والاقتصادِ الرقمي.
الاتفاقُ الدفاعيُّ ومنظوماتُ التسليحِ المتقدّمةُ سيكونان مظلّةَ ردعٍ تجعل كلفةَ المغامرةِ العسكرية في الخليجِ والبحرِ الأحمرِ وبابِ المندب باهظة، وتفرض على الجميع أن يمرّوا عبر بوابةِ التفاوضِ والحوار. كذلك، فإن برنامجًا نوويًّا سعوديًّا سلميًّا، بشراكةٍ أميركيةٍ، يقدّم نموذجًا إقليميًّا جديدًا لبرنامجٍ نوويٍّ تنمويٍّ يهدف إلى دعمِ التنميةِ وتخفيفِ الضغطِ على النفط، ويحرّر المزيدَ للتصديرِ والاستثمار، ويؤسّس لأمنِ طاقةٍ خضراءَ في الإقليم.
وفي قلب الزيارة بُعدٌ لا يقلُّ أهميةً، وهو الانتقالُ من صيغةٍ نفطيةٍ تقليديةٍ إلى معادلةٍ معرفيةٍ رقمية. فحين تصبح ملفاتُ الذكاء الاصطناعي، والشرائحُ الإلكترونية، ومراكزُ البيانات، والمدنُ الذكية جزءًا أصيلًا من جدول الأعمال المشترك، تتحوّل المملكة من طرفٍ يزوّد العالم بالطاقة إلى شريكٍ في صناعة أدوات المستقبل، وتُفتح أبوابُ الوظائفِ النوعية، وتُمنَح الاقتصاداتُ العربيةُ فرصةً حقيقيةً للدخول في سلاسل القيمة العالمية بدلَ البقاء على الهامش.
كما تضع هذه الزيارة الدبلوماسيةَ الاستثماريةَ في خدمة السلام؛ فكلُّ مشروعِ طاقةٍ متجددة، أو ميناء، أو ممرٍّ اقتصادي، أو منطقةٍ صناعية يُنشأ في أيِّ بلدٍ في المنطقة بتمويلٍ سعودي-أميركي، هو استثمارٌ مباشر في إطفاء جذور التطرّف والسلاح، وتكريسِ السلام التنموي بدلَ دوراتِ وقفِ إطلاق النار المؤقتة. وتتقدّم الرياض إلى واشنطن من موقعِ شريكٍ يملك خياراتِه وعلاقاتِه مع قوى دولية أخرى، جاعلة من المنطقةَ جسرًا بين الشرق والغرب.
هذه الزيارة ستثبت ثلاث حقائق جوهرية؛ أن المملكة شريكٌ لا يمكن تجاوزه، وأن أمنَ الإقليم سيُعاد تعريفه باعتباره أمنًا للتنمية، وأن الشراكاتِ الكبرى قادرةٌ على صناعةِ سلامٍ تنمويٍّ لا على إدارةِ أزماتٍ مؤجّلة، وبذلك سيكون ما يُوقَّع في البيت الأبيض أساسًا لثمانين عامًا جديدة يُعاد فيها تموضعُ الشرق الأوسط في قلبِ الجغرافيا السياسية والاقتصادية للعالم، كفضاءٍ للفرص والاستثمارات والتحوّل البنّاء.
د. سطام ال سعد
@Sattam_Alsaad
عضو جمعية إعلاميون