5/4/2024
تجولتُ مؤخَّرًا في عددٍ من أحياءِ شمالِ مدينةِ الرياض، وما استوقفنِي خلالَ جولتِي تلكَ، لمْ يكنْ فقطْ الارتفاع الفلكي في أسعارِ الإيجاراتِ، فهذَا الأمرُ برَّره لي صاحبُ مكتبِ عقارٍ بقولهِ: إنَّ هذَا الارتفاعَ طبيعيٌّ جدًّا، عطفًا على أسعارِ الأراضِي والبيوتِ في تلكَ المناطقِ التي وصفهَا بـ”الرَّاقيةِ”. والواقعُ أنَّ الرقيَّ كانَ يتجلَّى فقطْ في الاهتمامِ الواضحِ بالتصاميمِ الخارجيَّةِ للمبانِي، والأسوارِ والبواباتِ، ثم يتوقَّفُ الأمرُ عندَ هذَا الحدِّ، حيثُ تختفِي العنايةُ بالأرصفةِ وصيانتهَا وامتدادهَا المتناسق، ويصبحُ التشجيرُ هو مجرَّد فتحاتٍ بشعةٍ في تلكَ الأرصفةِ، تُوضعُ داخلهَا أقلُّ أنواعِ الأشجارِ حاجةً للعنايةِ، بلا ألوانٍ وزهورٍ وورودٍ.
هذه الجولةُ ذكَّرتنِي بخطوةٍ قمتُ بها قبلَ سنواتٍ عديدةٍ، حيثُ أرسلتُ خطابًا لمعظمِ سكَّان الحيِّ الذي أسكنهُ بمدينةِ جدَّة، تطرَّقتُ فيهِ لأهميَّةِ التواصلِ بينَ الجارِ وجارهِ؛ تنفيذًا لقيمِ ديننَا الإسلاميِّ الحنيفِ. ثم تحدَّثتُ بعدَ ذلكَ عن أهميَّةِ أنْ نُبادرَ ونضعَ أيدينَا جميعًا بأيدِي بعضٍ لجعلِ حيِّنَا نموذجًا في كلِّ شيءٍ جميلٍ، من تواصلٍ وترابطٍ، ونظافةٍ وتنسيقٍ وتشجيرٍ، بحيث نتفقُ على معاييرَ موحَّدةٍ يلتزمُ بها الجميعُ، سواء فيما يتعلَّق بالحفاظِ على نظافةِ الحيِّ أو الترصيفِ ونوعيَّةِ التشجيرِ المستخدمةِ أمامَ كلِّ منزلٍ، إضافةً إلى اقتراحِ النزولِ مرَّة كلَّ أسبوعٍ إلى أرضِ الحديقةِ الضخمةِ القاحلةِ الموجودةِ وسط الحيِّ، وقيامنَا بأنفسنَا بزراعتهَا والعنايةِ بهَا، لتكونَ متنفَّسًا للسكَّان، ولتمنحَ الحيَّ منظرًا حضاريًّا جميلًا، بدلًا للتشوِّه البصريِّ المزعجِ الذي تتسبَّب بهِ بوضعِهَا الحاليِّ.
للأسفِ الشديدِ، كانَ التجاوبُ محدودًا للغايةِ، بلْ شبه معدومٍ، بشكلٍ جعلنِي أشعرُ حينهَا بالحَرَجِ، وبأنِّي بادرتُ بعملٍ غيرِ مألوفٍ، أو ربَّما غيرُ مقبولٍ اجتماعيًّا.
الفكرةُ التي كنتُ أسعَى إليهَا، لمْ أقمْ في الواقعِ بابتكارهَا، ولكنِّي عشتهَا ولمستهَا لسنواتٍ طويلةٍ في حيٍّ آخرَ كنتُ أسكنهُ من قبل، وكانَ سكانهُ نموذجًا مختلفًا تمامًا للتواصلِ وللتعاونِ وحبِّ العملِ التطوعيِّ..
من الصعب جداً عليَّ أنْ أصف جمال وروعة الإحساس الذي كنت أشعر به في ذلك الحي الجميل المفعم بالحياة، خاصةً عندما كان مجموعة من الجيران يلتقون في ساعة محددة من كل أسبوع، ومع كل منهم ما أمكنه إحضاره من شتلات وزهور؛ لنقوم بزراعتها بأيدينا في مدخل الحي وأطرافه.. هذا اللقاء القصير كان أيضاً فرصة لتوطيد العلاقة بين السكان، ونقاش أيِّ مشكلات أو مقترحات يطرحها أي منهم.
للأسفِ الشديدِ مرَّة أُخْرى، فإنَّ ذلكَ الحيَّ النموذجيَّ لم يكنْ حيًّا من أحياءِ مدينةِ جدَّة، بلْ كانَ الحيُّ الذي سكنتهُ لسنواتٍ في ولايةِ فرجينيا الأمريكيَّة.
اليوم عاودنِي التساؤلُ نفسهُ وهُو: ماذَا ينقصُنَا كمواطنِينَ لتكونَ لدينَا روحُ التعاونِ والمشاركةِ والاهتمامِ بتلكَ الدائرةِ الصغيرةِ التي نعيشُ داخلهَا، وهِي دائرةُ “الحيِّ”؟ وهلْ من دورِ يمكنُ أنْ تقومَ به الأمانةُ، أو جمعياتُ مراكزِ الأحياءِ، وذلكَ لخلقِ تلكَ الثقافةِ ودعمِهَا وتشجيعهَا في جميعِ الأحياءِ؟، وهي بلا شكٍّ ستكونُ خطوةً لدعمِ مبادرةِ “السعوديَّة الخضراء” الهامَّة.
د. سعود كاتب
عضو جمعية إعلاميون
@skateb