21/1/2022
ابتدأنا بهم، وكانت نهايتنا إليهم.
انتسبنا لهم، وارتبطت أسماؤنا بأسمائهم، وعُلِّقت حياتنا على أكتافهم.
رأينا بهم نور الحياة، وكأن أعيننا لا تبصر غيرهم.
فأدمنت وجوههم، وحفظت ملامحهم، وتعودت على رؤيتهم، حتى أصبحوا جفنها ومقلتها وبصرها وبصيرتها.
فنشأنا تحت جناحهم، وأظلتنا قلوبهم قبل أجسادهم، وحملتنا صدورهم قبل حجورهم.
فكانوا بنا وكنا بهم، وما زلنا، حتى قست الحياة علينا وعليهم، فتلاعبت بنا، وغيرت برمجتنا، وعكست نظرتنا، فقلبت الصورة رأسًا على عقب، وأضرمت فيها نيرانًا من اللهب.
هؤلاء هم آباؤنا، التصقنا بهم منذ أن وُلدنا، ولكل صغيرة وكبيرة بهم قلدنا، وتعلمنا منهم الكلام والفعال، وورثنا عنهم الخلال والخصال، ليس الدواخل فقط بل حتى ظاهر الأشكال، “فأسعدهم تعلقنا”.
كبرنا قليلًا، فأصبحت المسافات بيننا قابلة للزيادة، ولكننا ما زلنا نراقبهم من بعيد، وما زلنا نشعر بالخوف إن كانت أجسادهم عنا تحيد، فليست قلوبنا من حديد، فإن اختفوا عن أنظارنا نشعر وكأن الحياة قد أظلمت، والسماء علينا أطبقت، والدنيا بنا ضاقت، والأرض بنا مادت، فالتهديد بغيابهم يزداد، وكأن كل ما حولنا بات يشكل خطرًا علينا، ولا يزول خطره، ولا يُكفى شره إلا بعودتهم، فما إن نراهم حتى نشعر بالأمان، ويعود استقرارنا النفسي لما عليه كان، “فأسعدهم احتياجنا”.
ثم كبرنا أكثر، فأصبحنا قادرين على أن نبتعد عنهم دون خوف، وشعروا بإمكانية استغنائنا عنهم، وعدم احتياجنا لحمايتهم، وتحررنا من رقابتهم، فانفصلنا عنهم، وهم وقتها وإن كانوا فرحين من الداخل لنضجنا واعتمادنا على أنفسنا، إلا أنه وفي الحقيقة “أتعبهم استغناؤنا”.
ثم كبرنا أكثر وأكثر، فأصبح لنا رأينا، وتكونت شخصيتنا، والتي ما صُقلت إلا بفضلهم، وما استقرت إلا بمتابعتهم، ولكننا بجهلنا نسينا ذلك وبطيشنا تناسيناه، وكأن ما نحن عليه بأيدينا بنيناه، وبمفردنا كونّاه، فأصبحنا ننتقد تصرفاتهم، ونتذمر من آرائهم، وتزعجنا ردات أفعالهم، وتستفزنا تعليقاتهم،
” فأزعجهم انتقادنا” .
وما زلنا نكبر حتى انفصلنا عنهم، وكوّن كلٌّ منا أسرة تخصه، وأصبح مسيطرًا على الوضع، ولا آمرًا ولا ناهيًا سواه ، ولا يحكم في بيته إلاه، حينها انشغلنا بحياتنا عنهم وأصبحنا لا نراهم إلا بين الحين والحين، وبمقدار ما تسمح به ظروفنا – إن سمحت – فجعلناهم في هامش حياتنا بعد أن كنا في صميم حياتهم، ” فأمرضهم ابتعادنا “.
ثم أصبح لكل واحد فينا أبناؤه وبناته، فانفصل عن جذوره وسخر لهم حياته، ونسي من كانوا السبب في نجاحاته، “فأرهقهم انفصالنا” .
ثم تعلقنا بأبنائنا، وتعلقوا بنا، ” فأسعدنا تعلقهم” .
وكأن الدائرة تدور بنا وبهم، فأصبحنا مكانهم وأخذنا دورهم، تبقى الأفعال هي الأفعال ولكن باختلاف الضمائر، فما يُفعَلُ بنا اليوم كنا نفعله بهم.
فها نحن نذهب لزيارتهم مع أبنائنا الذين هم أحفادهم، فيفرحوا بهم أكثر من فرحتهم بنا، ونشعر وكأنهم لا يروننا، فقد دربناهم على بُعدنا، وعودناهم على غيابنا، ثم هاهم اليوم يبحثون في أبنائنا عن بارق أملٍ يعوضهم خسارتهم بنا، ويملأ لديهم فراغاتنا، فبدؤوا معهم رحلة جديدة، لعلهم يجددون بها مكاسبهم، وينعشوا بها حياتهم، فكان أبناؤنا بلسمًا لهم يداوي جراحًا نحن أصحابها، ومفاتيحًا نحن أبوابها، فكان وجودهم يملأ حياتهم التي أفرغناها برحيلنا.
فنحن الداء ومنا الدواء، ونحن السقم وفينا الشفاء.
فتعلوا وجوهنا حينها ابتسامة لا نعرف سببها، وكأننا نريح ضميرنا؛ لأننا استطعنا أن نعالج بعض أخطائنا عن طريق أبنائنا، وكأننا نوكلهم لإكمال نقصنا، وتعويض تقصيرنا، وستر عيوبنا.
لأننا بتنا نفعل ما انتقدناه بهم. ونواجه أمورا تسببنا بها لهم.
وننتقد تصرفات بأبنائنا سبق وأن تصرفناها معهم.
هي الحقيقةالتي نعجز عن تفسيرها، وهي طبيعةالحياة التي لا مجال لتأويلها، فليس العيب فينا ولا فيهم، ولكنها أجيال تتعاقب، ووتيرة تتغير، وحياة تتطور، وفي كل جيل تفرض الحياة طبيعتها وتعكس صورتها على أبنائه، فلا تتطابق الصور، ولا تتقابل الأفكار، فكل جيل انعكاس لزمانه، وكل زمان له عنفوانه، فلا نعيب عليهم ما كان يتفق مع عصرهم، ولا يعيبوا علينا ما يناسب عصرنا.
فكلها متغيرات ولكن الأصل ثابت، ومهما كثرت الاختلافات إلا أنها لن تفسد للود قضية.
فما زالت حياتهم مرتبطة بنا، وحياتنا مرتبطة بهم. وإن كانت حلقة الوصل بين جيلنا وجيلهم جيلاً جديداً هم جذوره ونحن فروعه، فكان هذا الجيل ثمره وينعه . رسخ الجذر، فاشتد العود، ونما الفرع فأثمر، فقوي العود وامتد الجذر واصبح قادراً على الصمود.
ولولا هذا وذاك ما طابت لنا الحياة، وما كان لنا فيها بقاءولا امتداد ولا ظل، وهكذا كانوا وهكذا كنا وهكذا سنظل .
فهي الحياة “بلا بداية ولا نهاية”.