مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

زمن الطيبين

17/7/2022

كنت قريبًا من جدي، يحدثني كثيرًا عن ذكريات الماضي وحياته البسيطة، وفي يوم من الأيام روى لي قصة من الكثير من القصص التي تعبر عن الترابط بين أفراد المجتمع والمحبة والألفة والإيثار التي كانت تسود “الزمان الأول”.

ما زلت أذكر تلك الرواية لما فيها من معانٍ جميلة، وروح ربما افتقدناها في هذه الأيام، يقول جدي -رحمه الله- إنه اختصم ذات يوم شخصان مدعٍ ومدعًى عليه، وكل منهما يرى أنه صاحب الحق، لكن المفارقة أنهما من بلدتين مختلفتين، المدعى عليه من بلدتنا أما المدعي فمن بلدة بعيدة مسافة نصف نهار، فالإبل في ذلك الوقت كانت وسيلة المواصلات، اتفق الخصمان على ضرورة التقاضي، ونظرًا لعدم وجود قاض في بلدتنا قررا البحث خارجها، فاهتديا إلى قاض في بلدة تبعد ذات المسافة بين بلدتي المختصمين، ولما كان المدعى عليه لا يملك ما يركبه، عرض الخصم عليه أن يوصله على ناقته، فذهبا إلى القاضي معًا.

لما وصلا، ترجلا وتوجها إلى القاضي، وهو بالمناسبة قاضٍ معروف، فقدم كل منهم حجته وبيانه، وعلى ذلك حكم القاضي للمدعى عليه، رضي الاثنان بالحكم، لكن الأخير ظن أن في نفس المدعي شيئًا من الضيق، وعليه بدأ يتساءل كيف سيعود إلى بلدته وحيدًا، فهل يعقل أن يحمله من خسر القضية أمامه؟
سار مشغولًا بالتفكير بحل، وإذ بالمدعي يمر به على جمله ويسأله ” هل تأذن لي أن أصحبك إلى بلدتك؟” فما كان منه إلا أن قال “نعم”، ثم ركب معه حتى إذا أتيا البلدة أنزله وأكمل طريقه.
موقف لا ينسى، وقصة لا تكاد تعقل، إلا أن نفهم حجم ما كانت عليه النفوس من النقاء، والطيبة، كأنها بيضاء ناصعة البياض، كذلك كان “الزمن الأول” زمن الطيبين، أجدادنا وآبائنا، زمنًا كانت العائلات فيه كبيرة، يعيشون معًا في منزل واحد، ربما زادت عدد الأسر فيه عن أربع إلى خَمس أسر، يأكلون في صحن واحد، يجتمعون على مائدة واحدة مختلطين ببعض دون مشاكل تذكر، بل على العكس كانوا سعداء بذلك، وبالتقائهم يوميًا أكثر من ثلاث مرات، أما الآن فإذا لقيت أخاك أو صاحبك في الأسبوع مرة أو مرتين أو ثلاثا فذلك إنجاز كبير، في هذا الزمن الذي كثرت فيه الملهيات والمغريات وتباعدت فيه الأماكن والمنازل.
“الزمن الأول” كان فيه من الفقر والجوع وقلة ذات اليد ما فيه، إلا أنه كان جميلًا  رائعًا ما زلنا نتنسم ذكراه، لذلك نستغرب ممن ينتقصه، وكيف لا نعجب؟ فيكفيه أهله أنقياء القلوب طيبو السرائر ذوي النوايا الصادقة والمخلصة، فأبقى الله سيرتهم العطرة على ألسن الناس، وألقى حبهم في قلوب من بعدهم إلى هذا اليوم.

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop