إذا جاز لنا أن نُسمّى عصرنا الحالي بسمة أخرى غير «العولمة»، فإنّ الوصف الأدقّ سيكون هو «التباين»، وأكثر مظاهر الاختلاف التي نشهدها حالياً في حياتنا اليومية، هو التباين الكبير في الآراء ووجهات النظر بين الآباء والأبناء، الذي كثيراً ما يوصف بأنّه «صراع أجيال».

يتمظهر «صراع الأجيال» في كثير من مظاهر حياتنا اليوميّة والأسريّة والمجتمع وحتى في العمل، لأنّ ذلك الصراع بالرّغم من ظهوره وشيوعه في العقود الأخيرة إلّا أنّه صفةٌ أبدية بالبشر، وإن كانت مخفية لكنّها تظهر في أوقات المتغيّرات وتباين الرؤى.

لعلّ أكثر مظاهر «صراع الأجيال» علواً في أذهان الناس، هو صراع الأفكار بين الآباء والأبناء.. كثيراً ما نسمع ارتفاع صوت الاختلاف بين الآباء والأبناء داخل الأسر، إذ لا تخلو عائلة في عالم اليوم من اتساع الخلاف بين الأبناء والآباء، وكثيراً ما نسمع صوتاً يرتفع هنا وهناك بأنّ: «والداي يقيدان حركتي وأفعالي ويريدان أن يلبساني ثوباً قديماً»، بينما في الجانب الآخر ننصت إلى صوت يقول: «أبنائي لا يسمعون نصائحي، ويرفضون وجهة نظري ويسيرون في طريق مظلم بلا حذر؟»

هذه الأصوات المرتفعة يوماً بعد يوم تكشف عن مساحة شاسعة في وجهات نظر الآباء والأبناء، ومعظم هذا الاختلاف ناتج من «المخاوف» و»عدم الفهم» لأمنيات ورغبات الآخر.

وعدم الفهم ناتج من طبيعة البشر أنفسهم، حيث يرغب الآباء في أن يكون أبناؤهم نسخة مستحدثة عنهم، بينما يريد الأبناء الخروج من جلباب الآباء والوصاية.

التباين في وجهات نظر الآباء والأبناء ناتج عن صراع وجودي داخل نفوس البشر، وهو «صراع الماضي والحاضر»، حيث يرى الآباء أنهم اكتسبوا معرفة وخبرة من الماضي لا يريدون أن يختبرها أبناؤهم، ويريدون تجنيبهم مصيراً مؤلماً واجههم من قبل، بينما الأبناء يرغبون في اختبار معرفتهم وخبرتهم بأنفسهم وفق معطيات وواقع الحاضر الذي يعيشون فيه.

يظهر «الخوف» كأحد ديناميات زيادة الشقة بين الأبناء والآباء، حيث يخشى الآباء على أبنائهم من مواجهة الجديد والمستحدث الذي يخشونه، في الوقت نفسه يلوح «الخوف» في نفوس الأبناء خشية أن يُحبسوا في سجن القديم الذي اندثر.

زادت «العولمة» وتجلياتها في الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وارتفاع مستوى التعليم والثقافة، من حدة صراع الأبناء والآباء. قد يبدو من السطح أنّ لا حلول ناجحة لمشكلة «صراع الأجيال» التي نعيشها واقعاً داخل أسرنا ومجتمعاتنا، لكنّ هناك حلولاً للاقتراب من المعضلة يمكن أن تخفّف من ذلك الصراع لكنّها لا تنهيه أبداً.

أول مدخل لعلاج عدم الفهم والمخاوف بين الآباء والأبناء، يتمثّل في محاولة «تفهّم» كل طرف لمخاوف الآخر، ومحاولة بناء جسر تفاهم عبر تخيّل كلّ طرف ما هي مخاوف الآخر ولماذا يتصرف هكذا، أو لماذا يفعل كذا ولا يفعل كذا. إنّه أشبه بلعبة تغيير الأدوار، حيث يتخيّل الأب أنه ابن ويحاول الابن النظر إلى نفسه كأب.

عندما يقف الأب والابن في موضع أحدهما الآخر، ويتفهّم دوافعه ويقدر مخاوفه، فإنّ جسوراً ستُبنى وجدران ستُكسر وستخفّ وطأة صراع الأجيال.

الناشر : صحيفة الرياض