مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

أزمات (بي بي سي).. تهز أركان قوتها الناعمة

لم تكن الأزمة الأخيرة، التي واجهتها هيئة الإذاعة البريطانيَّة (BBC) مجرد خطأ مهنيٍّ عابر، بل نكسة حقيقيَّة أصابت إحدى أبرز أدوات القوَّة النَّاعمة البريطانيَّة، وأكثرها انتشارًا وتأثيرًا في العالم، فالمؤسَّسة التي بُنيت صورتها على المهنيَّة الصَّارمة والحِياد، وجدت نفسها هذه المرة أمام اتِّهامات جديدة بالانحياز، عبر التَّلاعب والتَّحريف في ترجمة خطاب الرئيس الأمريكيِّ دونالد ترمب، وما تلا ذلك من ارتدادات داخليَّة شملت استقالات واعتذارات ومراجعات هيكليَّة. وتأتي هذه الأزمة في وقت تواجه فيه BBC تحدِّيات مركَّبة أُخْرى، من ضغوط التمويل، وتراجع نموذج الرسوم التقليديِّ، إلى اشتداد المنافسة مع المنصَّات الرقميَّة ووسائل الإعلام الجديدة، ما يجعل اهتزاز مصداقيَّتها أكثر خطورة على دورها ومستقبلها كقوَّة ناعمةٍ عالميَّةٍ.

ورغم أنَّ الجدل حول «موضوعيَّة الإعلام» ليس جديدًا، فإنَّ خطورة ما حدث تتجاوز كونه مجرَّد مثالٍ آخرَ على الانحياز، أو الخطأ التحريريِّ، فـ BBC ليست مجرَّد وسيلة إخباريَّة، بل مكوِّن أساس من صورة بريطانيا، وامتداد لقيمها السياسيَّة والثقافيَّة؛ التي تسعى من خلالها إلى صياغة سرديَّات العالم وقضاياه. لذلك، فإنَّ تعثُّرها لا يُقرَأ كحادث مهنيٍّ محدودٍ، بقدر ما يُنظَر إليه كضربةٍ تُصيب رمزًا من رموز القوَّة النَّاعمة، التي طالما أسهمت في تعزيز مكانة بريطانيا الدوليَّة.

جزء من مشكلة الموثوقيَّة في نسخ BBC الموجَّهة للعالم العربيِّ، وتحديدًا في الخليج، يرتبط بسنوات طويلة، اعتمدت فيها المؤسَّسة على صحفيِّين عرب، جاء بعضهم بخلفيَّات أيديولوجيَّة، وانحيازات شخصيَّة، كانت كثيرًا ما تنعكس على تحليلاتهم، وتغطياتهم الصحفيَّة، بشكلٍ يتناقض مع الخط التحريريِّ المعلن للوسيلة التي يعملُونَ بها. ورغم أنَّ BBC أدركت جانبًا من هذه الإشكاليَّة، وخضعت بعض إداراتها لمراجعات داخليَّة وإعادة هيكلة، إلَّا أنَّ أثر تلك الانحيازات ظلَّ حاضرًا، بل ومتفاقمًا مع كلِّ أزمة جديدة.

اللافت أنَّ البعض -ومنهم إعلاميُّون- يبرِّر تلك الاختلالات، بمقولات شائعة مثل: «جميع وسائل الإعلام منحازة»، أو «الموضوعيَّة الإعلاميَّة وَهَم لا وجود له».

ورغم أنَّ الانحياز واقع موجود في كل وسائل الإعلام، بوصفه جزءًا من الطبيعة الإنسانيَّة، فإنَّه لا يمكن أنْ يتحوَّل إلى ذريعة، ولا يجوز استخدامه لتخفيف مسؤوليَّة المؤسَّسات الكُبْرى. فهناك فارق واضح بين انحيازٍ طبيعيٍّ يُدار داخل الحدود المهنيَّة عبر التحرير والضوابط، وبين انحياز ممنهج، أو مؤثِّر يقود إلى تغيير متعمَّد لمعنَى المحتوى، أو دفع الرسالة في اتجاه يخدم موقفًا أيديولوجيًّا، أو يقلب الحقائق ويُشوِّهها.

كما أنَّ ترديد مثل هذه المقولات من قِبل النُّخب المتخصِّصة؛ يساهم في شرعنتها وتطبيعها، ويمنح الأخطاء غطاءً يُسهِم في توسُّعها، ويُفرِّغ أخلاقيَّات الصحافة من مضمونها. فالمؤسَّسات الإعلاميَّة لا تُقاس بخلوِّها من الأخطاء، بل بقدرتها على الاعتراف بها، وتصحيحها، وامتلاك آليَّات شفَّافة للمساءلة، وهذا هو جوهر «أخلاقيَّات الإعلام».. ممارسةً لا شعارات، وانضباطًا لا ادِّعاءات.

ختامًا، في اعتقادي أن ما تحتاجه BBC اليوم، ليس بيانات اعتذار عابرة، ولا قرارات انفعالية وقتية، بل مراجعة عميقة تعيد إليها مكانتها التاريخية كوسيلة إعلام متميزة، ورمزٍ من رموز القوة الناعمة ذات الجاذبية والتأثير. ولن يتحقق ذلك إلَّا بالالتزام الصَّادق بأخلاقيَّات المهنة، واستعادة الموثوقيَّة الضائعة، والحفاظ عليها بوصفها رأس المال الحقيقي لأيِّ وسيلة تُخاطب العالم، وتسعى للتأثير فيه بالجاذبيَّة والإقناع والمصداقيَّة.

 

د. سعود كاتب
‏@skateb
عضو جمعية إعلاميون

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop