من أكثر المفاهيم التي أُسيء فهمها في بيئات العمل هو ما يُعرف بـ التوزيع الطبيعي أو التصنيف الإجباري للأداء. ويُقدَّم هذا النموذج عادة على أنه وسيلة لتمييز المتفوقين وتحفيز التنافس، لكنه في الحقيقة يخلق بيئة قلقة، تُضعف روح الفريق وتُشوّه مبدأ العدالة الذي تقوم عليه الثقافة المؤسسية السليمة.
المفارقة أن هذا التصنيف يُسمى “طبيعيًا”، بينما هو أبعد ما يكون عن الطبيعة. فالطبيعة بتدبير من خالقها سبحانه لا تفرض على الأشجار أن تثمر بنسبة محددة، لكنها تمنح كل شجرة فرصتها في الازدهار بطريقتها الخاصة.
بينما “التوزيع الطبيعي” يختزل الإنسان في رقم، ويضع سقفًا اصطناعيًا للتميز وكأن الإبداع مورد نادر لا يتسع للجميع.
حين يعلم الموظف مسبقًا أن نسبة محددة فقط ستحصل على تقييم “ممتاز”، حتى لو كان الفريق بأكمله يعمل بأداء عالٍ، فإن الشعور بالتحفيز يتحول تدريجيًا إلى قلق وإحباط.
لا يعود الهدف هو التطوير، بل النجاة من خانة “الأقل أداءً” التي لا بد أن تُملأ وفقًا للمنحنى، سواء استحقها أحد أم لا.
وبذلك يصبح النظام، الذي كان يُفترض أن يكون أداة للعدالة، مصدرًا للشعور بعدم الإنصاف. هذا النوع من السياسات يقتل الشغف ببطء. الموظف يفقد الثقة في العدالة التنظيمية، ويبدأ بالتعامل مع الأداء كسباق ضد الزملاء بدل أن يكون تعاونًا لتحقيق أهداف مشتركة.
ومع الوقت، تتراجع روح الفريق، ويذوب الانتماء لصالح البقاء الفردي.
بيئة العمل التي تُدار وفق التوزيع الطبيعي تميل تدريجيًا إلى الفردية والتنافس السلبي. فبدل أن يتبادل الزملاء الخبرات، يبدأ البعض في إخفاء المعرفة خشية أن تُحسب إنجازاتهم لغيرهم.
كذلك القادة بدورهم يُجبرون على توزيع التقييمات قسرًا، حتى وإن كان الفريق يعمل بتكامل رائع والأداء العام متميزًا وذلك لإرضاء المنحنى، مما يجعل العملية أقرب إلى إجراء بيروقراطي من كونها أداة تطوير حقيقية.
وعندما تُبنى القرارات على معادلات جامدة بدل الملاحظة الواقعية والنتائج الفعلية، تُفقد المنظومة توازنها. لا يعود الأداء انعكاسًا للجهد والنتيجة، بل للرقم الذي يجب أن يُملأ في خانة معينة.
الجدير بالذكر أن في جوهر رؤية المملكة 2030، يُعتبر الإنسان هو محور التنمية وركيزتها. والرؤية تقوم على تمكين الكفاءات، وتحفيز الإبداع، وفتح المجال أمام كل فرد ليصل إلى أقصى إمكاناته. أما التوزيع الطبيعي، فيُقيد هذه الإمكانات داخل منحنى يحد من التميز بدلاً من أن يوسّعه.
كيف يمكن أن نحقق “التميز المؤسسي” ونحن نضع سقفًا رقميًا للتميز نفسه؟ وكيف نرفع من كفاءة رأس المال البشري ونحن نحصره في فئات مسبقة تُوزّع دون مراعاة للجهد الفردي الفعلي؟
هذه المفارقة وحدها كفيلة بأن تجعلنا نعيد النظر في جدوى هذا التصنيف.
الحل ليس في إلغاء التقييم، بل في تطويره ليصبح أكثر إنسانية وموضوعية. نظام الأداء يجب أن يُركّز على التطوير المستمر، والتغذية الراجعة، وتقدير الجهود الحقيقية دون سقف إحصائي.
العدالة لا تتحقق بتوزيع الأرقام، بل بإعطاء كل موظف ما يستحقه فعلاً، وتحفيز من يبذل جهدًا ليواصل العطاء. فبيئة العمل التي تُقدّر الإنسان وتحتفي بالجهد، هي البيئة التي تثمر ولاءً وابتكارًا واستدامة.
أما التوزيع الطبيعي، فمهما تجمّل بالمصطلحات، يظل نموذجًا جامدًا في عالم يتغير بسرعة ويحتاج إلى أنظمة أكثر ذكاءً ومرونة.
في النهاية، يمكننا القول إن التوزيع الطبيعي لا يُعبّر عن الواقع
بل هو نظام يريح من يضع الأرقام، لكنه يُتعب من يصنع الإنجاز. وحتى نصل إلى بيئة عمل تُجسّد رؤية المملكة في تمكين الإنسان، علينا أن نعيد الاعتبار للطبيعة الحقيقية للتميز: أن يكون لكل موظف فرصة حقيقية ليزدهر، بلا قيود إحصائية، وبلا تصنيف يُدّعى أنه طبيعي وهو في الحقيقة… أبعد ما يكون عن الطبيعة.
أ. هيا الزبيدي
@haya_z88
عضو جمعية إعلاميون