مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

“الجهل المقدّس”

ثمة نوع من الجهل لا يشبه الجهل العادي، ذلك الذي يكتفي بعدم المعرفة أو نقص الوعي. بل هناك جهلٌ أعمق أخطر وأكثر رسوخًا هو الجهل المقدّس الذي يُغلّف الخطأ بهالة من القداسة. ويُمنح صكّ الصواب لمجرد أنه موروث أو مألوف أو صادر عن سلطة ما.
هذا الجهل لا يعيش في الظل بل يسكن الساحات والمدارس والمجالس وحتى المنابر، يتكاثر كلّما توقّف العقل عن السؤال، وكلّما استُبدلت الحجة بالتصفيق والتفكير بالاتباع.

الذين يتبعون سياسة القطيع لا يفعلون ذلك دائمًا عن سوء نية، بل عن خوفٍ من العزلة من السؤال، من أن يكونوا الاستثناء في عالمٍ يقدّس التشابه؛ إنهم يُقدّسون الفكرة لأنهم يخشون مواجهة فراغهم إن هم تخلّوا عنها، ويُدافعون عن الخطأ كأنه يقيم في أعماقهم، لأنهم ببساطة لم يتعلموا كيف يفكرون خارج الحدود التي رُسمت لهم.

لكن كيف نخاطب هذه العقول؟ وكيف نتعامل معها دون أن نصبح مثلها؟ في الفلسفة الحوار ليس وسيلة إقناع بقدر ما هو كشفٌ للحقيقة.
الفيلسوف لا يعادي الجهل بل يسعى إلى تفكيكه؛ لا يثور على القطيع؛ بل يسائل سبب وجوده ويؤمن أن التغيير الحقيقي يبدأ بالفرد الذي يجرؤ على التفكير بصوتٍ مختلف.

أما نحن كأفراد داخل مجتمعٍ يتّبع القطيع في كلّ تفاصيله؛ فإن أصعب مهمة هي أن نحافظ على وعينا دون أن نصبح منبوذين أن نحمل نور العقل دون أن نحرق به من حولنا.
ليس المطلوب أن نتماهى مع الجهل ولا أن نحاربه بعنف؛ بل أن نزرع الشكّ الهادئ في الأرض الصلبة من اليقين الزائف أن نكون الأسئلة في وجه الإجابات الجاهزة. والتفكير في زمنٍ يُعاقَب فيه المتفكر.

الجهل المقدّس لا يُهزم بالمواجهة بل بالوعي؛ لا يُسقطه الجدل بل التجربة، ولا يفضحه الصراخ، بل القدرة على التفكير المستقل، فلتكن مقاومتنا إذن صامتة بليغة.
أن نحيا بفكرٍ حرٍّ بين من يقدّسون القيودأن نرى النور دونأن نستهزئ بالعميان وأن ندرك أن أعظم أنواع الشجاعةهي أن تظلّ مختلفًا في عالمٍ يطالبك أن تكون نسخة مكرّرة.

كيف يمكننا أن نعيش بين من يخشون النور ويعبدون الظلال؟ هل نتنازل عن بصيرتنا لنبقى بينهم أم نحتفظ بوعينا ولو وجدنا أنفسنا وحيدون في الضفة الأخرى؟
علنا ندرك أنه في لحظات الصفاء بأن العزلة التي يفرضها الوعي ليست عقوبةبل حماية وأن الاختلاف ليس جريمة بل نعمة تختبر صدقك مع نفسك سأتعامل مع هذا “الجهل المقدّس”، كما يتعامل الحكيم مع الصدى لا يصرخ ليُثبت صوته بل يهمس ليختبر من يسمع، فربّ كلمةٍ صادقة توقظ عقلًا غافلًا، وربّ صمتٍ واعٍ يهزّ أركان قطيعٍ بأكمله.

 

أ. هناء الخويلدي
‏@Hana69330082
عضو جمعية إعلاميون

 

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop