الحمد لله الذي أتمّ على الأمة شعيرتها الكبرى، وأكمل نعمتَه في موسم حج عام 1446هـ بنجاح وتمام، ونسأل الله القبول لكل من وفد إلى بيته الحرام، وأدى نسكه بخشوع وسكينة، كما نرفع جزيل الشكر والعرفان لخادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين – حفظهما الله – على رعايتهما الكريمة، وما سُخّر من إمكانات بشرية وتقنية ولوجستية لخدمة ضيوف الرحمن، في صورة حضارية باتت مضرب المثل عالميًا، ولا يفوتنا أن نُثمّن جهود الجهات الرسمية، والقطاعات المتنوعة، وآلاف المتطوعين والمتطوعات الذين شكّلوا نسيجًا وطنيًا متماسكًا لخدمة الركب الإيماني العظيم.
إن الحج، وهو فريضة تعبّدية وشعيرة روحية عظيمة، إلا أنه في عمقه حدث إنساني حضاري شامل، يتجاوز حدود الفردية ليُجسد روح الأمة المتضامنة، وتتكامل فيه الجهود بين القطاع الحكومي، والخاص، وغير الربحي، والأفراد، لتُجسّد معاني التكاتف الوطني والمشاركة المجتمعية في أعلى مستوياتها، وقد عززت رؤية المملكة 2030 هذا المنظور، حين أكدت أن خدمة الحجيج ليست مجرد إدارة لوجستية، بل شرف وطني ومسؤولية مجتمعية تستدعي تفعيل الطاقات وتعظيم القيم، وإشراك الأفراد والمؤسسات في نسيج العمل الوطني.
لقد تحول موسم الحج – بفضل الله ثم برؤية المملكة – إلى مختبر تطبيقي للمواطنة الصالحة، وميدان فعلي لتفعيل الاتصال التشاركي، حيث تُنظم ورش العمل التحضيرية بمشاركة فئات المجتمع المختلفة، وتُرسل الاستبيانات التقييمية عبر البريد الإلكتروني وتطبيق “نسك”، وتُتاح شاشات تقييم ذكية في المشاعر المقدسة والمرافق الخدمية، فضلًا عن تحليل الآراء وقراءة الانطباعات عبر المنصات الرقمية مثل “تواصل” و”إحسان”، في دلالة واضحة على إرادة جادّة لتحويل الحج إلى تجربة مجتمعية ناضجة تُسهم في تطوير الخدمات وبناء ثقافة المشاركة.
ورغم هذه الجهود المشهودة، والتجارب الغنية التي تُمارس وتُشاهد في الميدان، إلا أنه يُلاحظ بعض القصور في التوثيق الرقمي والإحصائي، فما زلنا – حين البحث بعمق – نفتقد إلى بيانات دقيقة تُحدّث لحظيًا، وتُظهر حجم المشاركة المجتمعية بجميع أبعادها: كمًا وكيفًا، في عدد الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وحجم مشاركة الأفراد، والعطاء المجتمعي التطوعي، ومجالات تدخل القطاع غير الربحي، ومساهمات القطاع الخاص ومؤسساته المانحة، وهذه الملاحظة لا تقلل من الجهود العظيمة المبذولة، لكنها تحرمنا من فرص تحليلية ثمينة يمكن أن تدفع باتجاه تعظيم الأثر، وتحسين الكفاءة، وتحفيز الابتكار.
من هنا، تتضح أهمية تفعيل دور الهيئات والمنصات المعنية مثل مرصد العمل غير الربحي لخدمة ضيوف الرحمن، ومثلها من المنصات الوطنية الرصينة التي تُعنى بجمع البيانات، وتحليلها، وتقييم السياسات، واقتراح المبادرات، ورصد الاتجاهات الاجتماعية، بما يُرسّخ مبدأ الحوكمة المجتمعية، ويُحقق الأثر التنموي المستدام.
إن نجاح موسم الحج نتاجُ شبكة واسعة من العطاء التشاركي، ومحصّلة تضافر الجهود بين مؤسسات الدولة ومكونات المجتمع، ولعلّ أعظم ما يمكن أن يُهدى لهذا النجاح هو توثيقه، وتقدير من صنعوه، وتحويله من موسمٍ تعبّدي إلى نموذج معرفي يمكن البناء عليه، وتطويره، وتوسيع أثره.
فكما أن شعيرة الحج من أعظم ما يتقرب به إلى الله، فإن خدمة الحجيج وتوثيق أثرها من أعظم ما يُقدّم للوطن والأمة.. لنكتب بلغة الأرقام قصةً تُلهم العالم.
د. يوسف الهاجري
@aboaadl2030
عضو جمعية إعلاميون