مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

الخوارزميات… صانع الرأي الجديد

 

في عالم اليوم، حيث تُحاصرنا الشاشات من كل اتجاه، لم يعد الإعلام فقط منبرًا للأخبار أو منصة للتسلية، بل أصبح قوة خفية تشكل وعينا وتحدد اختياراتنا اليومية. لم نعد فقط متلقين للمعلومة، بل أصبحنا محاطين بخوارزميات تقرر ما نراه وما لا نراه، وما نقرأه وما نتجاهله، حتى قبل أن نقرر بأنفسنا.

تلك الخوارزميات، التي تُصمم لخدمتنا، غالبًا ما تعمل بصمت، دون أن نشعر بها. هي تعرف ما يثير اهتمامنا، ما يثير غضبنا، وما يجذب انتباهنا لفترة أطول. في البداية قد نراها أداة مفيدة: توصيات شخصية، أخبار مقربة لاهتماماتنا، محتوى يُشبع فضولنا. لكن الحقيقة الأكثر عمقًا هي أن هذه الخوارزميات تخلق فقاعات فكرية تحد من تنوع رؤانا، وتجعلنا نرى العالم كما “تريد” لنا أن نراه، لا كما هو فعليًا.

لنأخذ مثالًا بسيطًا: إذا شاهدت فيديو عن حدث معين، فإن الخوارزمية ستقترح عليك تلقائيًا المزيد من الفيديوهات المشابهة، بنفس الزاوية أو الرأي، حتى تصل إلى مرحلة تكرار ذات الرأي مرات عدة. تدريجيًا، يتكون لديك إحساس بأن هذا الرأي هو الحقيقة الوحيدة، وأن كل ما يخالفه غريب أو غير صحيح. هنا، لم تعد تُشكل رأيك أنت، بل صارت الخوارزمية تُشكلك، بذكاء خفي وبدون صراع.

الإعلام التقليدي كان دائمًا يحتاج إلى مهارات وجهد من صانع المحتوى لإقناع الجمهور، أما اليوم، فإن قوة الانتشار ليست في المعلومة بحد ذاتها، بل في القدرة على جذب الانتباه ضمن المنصة الرقمية. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: قد تصبح الحقيقة مجرد أداة للتفاعل، والقيم مجرد عناصر للتلاعب بالمشاعر.

لكن، هل كل شيء سلبي؟ بالطبع لا. يمكن للخوارزميات أن تكون أداة قوية للتعلم، ولتوسيع مداركنا، إذا استخدمناها بوعي. الفرق بين من يسيطر على الفكرة ومن يسيطر على الخوارزمية واضح: من يختار أن يتابع محتوى متنوع، يظل واعيًا لعالمه، بينما من يترك نفسه في قبضة المنصة، يصبح جزءًا من دائرة مغلقة، لا يراها إلا بعين واحدة.

الوعي هنا ليس مجرد معرفة بأن الخوارزمية موجودة، بل القدرة على التمييز بين ما نقدره وما يُفرض علينا تقديره. الإعلامي الحقيقي، اليوم، ليس من ينشر الأخبار فحسب، بل من يعلم جمهوره أن يقرأ ما وراء الشاشة، أن يسائل مصادره، وأن يتجاوز الانطباعات الأولية.

في النهاية، نحن لسنا ضحايا التكنولوجيا، ولكننا مسؤولون عن كيفية تعاملنا معها. كل مرة نضغط “التالي” دون تفكير، كل مرة نترك الخوارزمية تحدد اختياراتنا، نحن نتخلى عن جزء من وعينا. لكن بمجرد أن ندرك هذه الحقيقة، ونمارس حرية الاختيار الواعية، نستعيد قوتنا في مواجهة المعلومات، ونحول الخوارزمية من أداة تحكم إلى أداة دعم للمعرفة والفكر الحر.

الإعلام الرقمي اليوم هو ساحة معركة غير مرئية، بين من يريد تشكيل وعي الناس ومن يريد أن يكون الناس واعين فعليًا. الخيار لنا، كما هو دائمًا: هل نترك أنفسنا تُساق خلف الخوارزميات، أم نعيد لأنفسنا الحق في الرؤية، والفهم، والتفكير المستقل؟

إن وعي الفرد هو حصنه الأخير، وسلاحه الأقوى، والخوارزمية مهما كانت ذكية، لا تستطيع اختراق ما يملكه من قدرة على السؤال والتفكير والنقد. فلنجعل الإعلام أداة للإدراك، لا للسيطرة.

 

أ . خيرية حتاته
‏Khairiah_Writes
عضو جمعية إعلاميون

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop