لقد تحولت الصحافة الرقمية من قناة لنقل الخبر إلى قوة استراتيجية تعيد رسم خرائط التأثير الدولي، وتعيد تعريف معنى السلطة الإعلامية في القرن الحادي والعشرين. هذا التحول هو نتاج تفاعل معقد بين التقنية، وسلوك الجمهور، والمنافسة على قيادة الرأي العام العابر للحدود.
وفي هذا الإطار، أعد المستشار والدكتور علي الحازمي، رئيس “نادي الصحافة الرقمية: وعضو جمعية “إعلاميون”، استبيانًا نوعيًا حول “دور الصحافة الرقمية في التأثير الإعلامي الدولي”. ويُعد هذا الاستبيان إحدى أبرز المبادرات البحثية من حيث المنهجية والعمق، إذ يتجاوز مجرد رصد الظواهر إلى قياس التفاعل بين عناصر محورية تشمل المصداقية، والتنوع، والتفاعل، ودور وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف الوصول إلى تقييم دقيق لمدى قدرة الصحافة الرقمية على التأثير في الأجندة الإعلامية العالمية.
تمثل المصداقية الركيزة الجوهرية وأحد أكثر عناصر الصحافة الرقمية حساسية؛ فهي في آنٍ واحد حجر الأساس الذي يرسخ الثقة، وكعب أخيل الذي قد يقوّضها عند الإخلال به. وتكشف بعض المؤشرات التي تستهدفها هذه الاستبانة عن مفارقة جوهرية؛ فالسعي المحموم لسرعة النشر قد يفضي إلى تراجع جودة المعلومة ودقتها، غير أن توظيف آليات التحقق الجماعي (Crowdsourcing) والالتزام بشفافية المصادر يتيح فرصة لرفع مستوى الثقة إلى درجات غير مسبوقة. وهنا يبرز التساؤل: هل ستغدو المصداقية أداة استراتيجية لتعزيز النفوذ الإعلامي العالمي، أم أنها ستسقط ضحية لصراع المنصات على استقطاب الجمهور؟
كما تشير الاستبانة إلى أن الصحافة الرقمية غير مقيدة بجغرافيا أو زمن، ما يمنحها قدرة على تحويل قضايا محلية إلى قضايا عالمية في غضون ساعات. ومع ذلك، فإن هذا الانفتاح يفرض تحديًا يتمثل في خطر التشتت وفقدان الهوية التحريرية، إذ إن تنوع المواضيع لا يمثل قوة حقيقية ما لم يكن مؤطرًا برؤية تحريرية متماسكة تجمع بين التعددية والانضباط المهني.
ومن المحاور الجوهرية التي تتناولها الاستبانة قياس تفاعل القراء مع المحتوى، حيث لم يعد الجمهور مستهلكًا صامتًا، بل بات شريكًا في صياغة الرواية الإعلامية، سواء عبر التعليقات أو إعادة النشر أو إنتاج محتوى موازٍ. هذا التغير الكبير أعاد رسم ميزان القوى في الإعلام، من غرف التحرير المغلقة إلى ساحات التفاعل المفتوحة، حيث يمكن لصوت فرد واحد أن يتجاوز صدى وكالة أنباء كاملة إذا امتلك التوقيت والجرأة.
أما وسائل التواصل الاجتماعي، كما ترصدها الاستبانة، فقد تجاوزت دورها التقليدي كقنوات لتوزيع المحتوى لتتحول إلى ساحات للمعارك الإعلامية النفسية والثقافية. فهي تتيح الانتشار اللحظي، لكنها تفتح في الوقت نفسه الباب أمام التضليل والاستقطاب، مما يجعل إدارة المحتوى فيها مسألة استراتيجية تمس الأمن الوطني، ولا تقل أهمية عن أدوات السياسة الخارجية للدول.
ويبرز في الاستبانة “المتغير التابع” الذي يكشف عمق التأثير الدولي للصحافة الرقمية، من قدرتها على تغيير المناهج الإعلامية، والتأثير على الرأي العام العالمي، وصولًا إلى تمكين الوصول إلى مجتمعات غير ممثلة. هذه المؤشرات تؤكد أن الصحافة الرقمية قد تتحول إلى أداة نفوذ ناعمة تضاهي الدبلوماسية التقليدية في فعاليتها، وربما تتفوق عليها في سرعة الوصول وعمق التأثير.
إنّ أهمية هذه الاستبانة لا تكمن في أسئلتها فحسب، بل في توقيتها الذي يتزامن مع تسارع غير مسبوق في تدفق المعلومات، ما يجعل القدرة على فهم هذا التدفق وتوجيهه قضية تمس الأمن الوطني والقوة الدولية. فالبيانات التي سيوفرها البحث الذي يقوده الدكتور علي الحازمي يمكن أن تشكل قاعدة استراتيجية لصياغة سياسات إعلامية أكثر وعيًا، وذلك لتوظيف الصحافة الرقمية ليس فقط لنقل صورة الوطن، وإنّما لصناعة سرديته الخاصة في الإعلام العالمي.
د. سطام ال سعد
@Sattam_Alsaad
عضو جمعية إعلاميون