الذهب ذاكرةُ الأرض ومفتاحُ سيادتها الخفي. وفي كل مرةٍ تتبدّل فيها خرائطُ النفوذ أو تنهار فيها عملة، يعود هذا العنصرُ الأصفر إلى الواجهة بوصفه المنقذَ الأخير، والركيزةَ التي يُستند إليها حين تفقد الأوراقُ النقدية قيمتَها وتفقد الوعودُ السياسيةُ وزنَها، فتجد بعضَ الدول نفسها مدفوعةً إلى اللَّهَث خلف الذهب، إذ تراه ضمانةً وجوديةً خوفًا من تغيّر قواعد اللعبة التي تُدار ضمنها. هذا اللَّهَث يعكس خوفًا هستيريًّا عميقًا من انهيار منظومتها الاقتصادية والتنموية، ومن انكشافها أمام التزاحم الجيوسياسي على موازيين القوة الإقليمية.
غير أن الذهب ليس ثروةً منزوعةَ الجغرافيا؛ إنه كائنٌ جيوسياسيٌّ حيّ يعيش ويتنفس داخل خرائط النفوذ والتجارة والموانئ والممرات البحرية. قيمته الحقيقية لا تُقاس بكمية ما يُخزَّن في الخزائن، بل بقدرة الدولة على توجيه مساراته والتحكم في أسواقه. فالمورد الذي يخرج من باطن الأرض كثروة وطنية قد يتحول بسهولة إلى أداة نفوذ خارجية، لأن من يمتلك أدوات التسعير والتداول يمتلك في الحقيقة «الذهب السياسي»، لا المعدني.
إنَّ الذهب، حين يُختزل إلى غايةٍ وهو خارجُ الحدود الجغرافية، يتحوّل إلى هوسٍ سياديٍّ تُصاب به الدولُ التي فقدت توازنها بين الحاجة والسيادة، فتُساق إلى سباقٍ غيرِ متكافئٍ مع قوى تملك البنيةَ الماليةَ والسياسيةَ العابرةَ للحدود. هناك، يتحوّل المعدن إلى مرآةٍ تعكس ضعفَ الدولةِ التي تملكه، وجشعَ التي تفاوضه. فهو سلاحٌ ذو حدّين: يُغري المنهَكةَ بالنجاةِ من أزماتها، ويُوهِم اللاهثةَ خلف النفوذِ بالسيطرةِ عبر بوّابات الأسواقِ والمصارفِ والموانئ.
والمفارقة أن من يظن نفسه جزءًا من النظام الدولي، هو غالبًا من يرفع شعارات الشفافية ويحاضر في أخلاقيات التجارة، ثم يُخالف القواعد التي وضعها بيده؛ فبعض تلك الدول وقّعت على اتفاقياتٍ دوليةٍ تحظر الاتجار بالذهب القادم من مناطق النزاعات، ومع ذلك لا تزال أسواقها تستقبل مئات الأطنان من هذا الذهب غير الشرعي كل عام، لتتحوّل القوانين إلى ستارٍ أخلاقيٍّ يُخفي واقعًا تجاريًّا متخمًا بالتناقضات.
ولهذا، فإن الاندفاع غير المحسوب وراء الذهب لا يصنع سيادةً ولا يضمن استقرارًا، ويكشف هشاشة الدولة حين تستبدل التبعيةَ النقديةَ بتبعيةٍ معدنية. فالقيمةُ تكمن في الوعي بطريقه، وفي إدراك أن السيادة الحقيقية تُبنى على العقل الذي يملك الاتجاه، لا على اليد التي تملك اللمعان.
د. سطام ال سعد
@Sattam_Alsaad
عضو جمعية إعلاميون