كما يحجب الدخان الكثيف الرؤية، ويُشوّه ويخفي ملامح الأشياء، تحجب «الشخصنة» وضوح الأفكار في النقاشات العامة، وتحوّل الحوار من مساحة لتبادل الرأي إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات والاغتيال المعنوي.
الشخصنة ليست مجرد خطأ وانحراف عابر لمسار النقاش، بل هي مغالطة وأسلوب قديم وشائع، يُعرف في اللغة الإنجليزية باسم «الطعن في الشخص» أو Ad Hominem، وهي عبارة لاتينية تعني «إلى الشخص» أو «موجّه إلى الإنسان».. والمقصود بها تَعمُد توجيه النقاش إلى شخصية المتحدث بدلاً من مضمون كلامه وفكرته، وتكمن خطورتها بأنها تمنح ممارسها شعورًا وهميًا وزائفًا بالانتصار، وبأنه نجح في إرباك الطرف الآخر أو إسقاطه واغتياله معنويًا، بينما تكون الفكرة نفسها ما تزال قائمة بلا ردٍّ ولا تفنيد. هذا الأسلوب نراه يوميًا في فضاءاتنا العامة: كأن يُقدّم كاتب رؤية إصلاحية، فيُجابَه لا بمناقشة رؤيته، بل بسؤال استنكاري «من أنتَ لتتحدث في هذا المجال؟».. أو اقتصادي يُحذّر من خلل مالي، فتهاجم سيرته الأكاديمية بدلاً من أرقامه وتحليلاته، أو باحث خلصت دراسته لتوصيات محددة، فتتم المسارعة بوصفها بأنها تنظير وبُعد عن الواقع. وحتى على منصات التواصل، حين يُعبّر شخص عن رأي سياسي أو اجتماعي، فتأتيه ردود وتعليقات تستهزئ بصورته أو أسلوب كتابته؛ بدلاً من مناقشة فحوى كلامه.
هذه الانزلاقات تُفرغ النقاش من قيمته، فالحوار الحقيقي يقوم على مقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، أما حين يُستبدل ذلك بالهجوم على الأشخاص والغوص في نواياهم وخلفياتهم، فإن النتيجة لا تكون سوى جدل فارغ يُرضي غرور البعض لحظة، لكنه يحرم المجتمع من فرصة التعلم والتطور، ويحول النقاش من أداة بناء وتطوير إلى معول هدم وتشويه ووأد للأفكار في مهدها.
المؤسف أن هذا النمط لا يقتصر على فضاءات التواصل أو النقاشات اليومية، بل يتسرب أحيانًا إلى منابر يُفترض أن تكون عقلانية ورصينة، مثل بعض وسائل الإعلام أو الحوارات الأكاديمية والثقافية. وحين يحدث ذلك، فإن أثرها لا يقتصر على طرفي النقاش، بل يمتد ليشكّل صورة سلبية أمام الجمهور، ويُرسخ ثقافة عقيمة تفتقد للمنطق والاحترام والأمانة المهنية والعلمية. البديل عن الشخصنة ليس صعبًا، لكنه يتطلب وعيًا وانضباطًا، وذلك بأن يكون محور النقاش هو «الفكرة» لا «صاحب الفكرة».. قد نختلف بحدة، لكن علينا أن نحصر اختلافنا في إطار الحجة والطرح، لا في الطعن الشخصي والتجريح، فالمجتمعات التي تنهض وتتطور ليست تلك التي تتفق دائمًا، بل التي تملك القدرة على إدارة خلافاتها بموضوعية واحترام.
فلنجعل نقاشاتنا أكثر نضجًا، فلا نُسقط على الأشخاص ونُشوه صورهم، بل نفنّد الأفكار ونختبرها وندعمها، ولا نسعى لإخراس المخالف، بل نسمعه لنختبر معًا حججنا وآراءنا بتكامل وتعاون وبُعد عن الإقصاء.. عندها فقط يتحوَّل النقاش من ضجيجٍ وأداة قمع وصراع، إلى أداة وعي وبناء وتطوير.
د. سعود كاتب
@skateb
عضو جمعية إعلاميون