كل شيء بات يقاس بالسرعة وعدد الظهور والانشغالات، لم يعد الحضور كافيًا ليعبّر عن القرب، ولم يعد التواجد بين الناس دليلاً على الصِلة. كثيرون حولنا، لكن القليل فقط منهم “موجودون” فعلًا. هنا تبدأ المفارقة الجوهرية بين من يشاركنا اللحظة جسدًا، ومن يحضر معنا روحًا وشعورًا وتأثيرًا.
التواجد هو الحضور الفيزيائي؛ أن يكون شخص ما في مكانٍ ما، في وقتٍ محدد. أما الوجود فهو الحضور المعنوي والعاطفي والفكري. أن يشعر بك الآخر، أن تكون داعمًا، مُلهِمًا، أو حتى مجرد مستمع صادق في وقتٍ لا يتحدث فيه أحد.
نرى هذا الفرق واضحًا في علاقاتنا اليومية:
أمهات وآباء يشاركون أبناءهم الغرفة لكن لا يشاركونهم الحديث أو الحلم.
أزواج يسكنون بيتًا واحدًا لكن قلوبهم متباعدة.
أصدقاء يلتقون كثيرًا، لكن لا يتبادلون سوى أحاديث السطح.
الوجود يتطلب وعيًا، اهتمامًا حقيقيًا، وقدرة على الاستماع دون أحكام. بينما التواجد لا يحتاج سوى جدولة على التقويم أو دعوة على فنجان قهوة.
حتى في بيئة العمل، كثيرون “يتواجدون” خلف مكاتبهم يوميًا، دون أن يكون لهم أثر يُذكَر، أو طاقة تُضيف. المدير الذي لا يُحفّز، المعلم الذي لا يُلهِم، الموظف الذي يعمل فقط ليكمل الساعات… كلهم متواجدون، لكن وجودهم باهت، وغيابهم لا يُلاحَظ.
أما الوجود الحقيقي، فهو ذلك الذي يترك أثرًا حتى بعد الغياب. من يصنع فرقًا في حياة الآخرين، من يغيّر فكرة، أو يواسي قلبًا، أو يزرع طمأنينة. هذا هو الوجود الذي لا يُشترى، ولا يُجسَّد، بل يُعاش ويُشعر.
في زمن العلاقات الرقمية، يختلط الأمر أكثر. نتابع مئات الأشخاص يوميًا، لكن من منهم “موجود” فعليًا في تفاصيلنا؟ من منهم يُشبه الرفقة الحقيقية؟ نكتشف أن الكثرة ليست عمقًا، وأن الحضور ليس دائمًا دليل المحبة.
ختامًا، لسنا بحاجة لأن نكون في كل مكان، أو مع كل الناس، بل أن نكون حيث يجب، ومع من يستحق، وبالطريقة التي تُشعرنا أننا أحياء. لأن الحياة ليست بعدد المرات التي حضرنا فيها، بل بالأثر الذي خلفناه حين “كنا فعلًا موجودين”.
أ. الجوهرة ال مرعي
@c3w125
عضو جمعية إعلاميون