المجتمعُ بحرٌ واسع، كلما اقتربتُ منه غسلتْ أمواجه شيئاً من وحدتي، لكنّ ملحه يترك أثره على ملامحي.
هو مرآة ماءٍ صافية في صباح هادئ، تكشف حقيقتي حين أقترب، لكنه يتحوّل أحياناً إلى ماءٍ مضطرب يُشوّه صورتي حتى أنسى مَن أكون.
الناسُ أشجارٌ في غابة عمري بعضها يمدّني بظلّ وارف وثمار طيبة، وبعضها أشواك تخدش أصابعي كلما حاولتُ الإمساك بها.
أحاديثهم نسيمٌ ينعش الفكرة حين يكون ناعماً، وعاصفة تقتلع جذور يقيني حين يشتدّ.
التوازن ليس هروباً إلى كهف، ولا غرقاً في الساحة إنه فنّ السير على حافة الموج، حيث تبلّلني المياه دون أن تبتلعني الأعماق ، فالإنسان، منذ أن خُلق، لم يكن كائناً مكتفياً بذاته فحاجته إلى الآخر ليست مجرد ضرورة مادية، بل هي امتداد لجوهره الإنساني. ومع ذلك، فإن الانخراط في المجتمع يشبه السير على خيط مشدود بين قمتين؛ خطوة نحو الضوء تكشف جمال المشاركة، وخطوة أخرى نحو الظل تفضح ثِقَل الصخب وضجيج الآخرين.
الاحتكاك بالمجتمع يمنح الروح زاداً لا يُشترى أفكار جديدة تتدفق من العقول، قصص وتجارب تزرع الحكمة، ودفء العلاقات الذي يحفظ القلب من برد العزلة. في العيون التي نلتقيها، نرى انعكاساً لذواتنا، وفي النقاشات التي نخوضها، نكتشف أفقاً أوسع مما كنا نظنه نهاية الطريق.
فالآخرون، بوعي أو دون وعي، يشكّلون مرايا لنا، يضعون أمامنا صوراً نحبها وأخرى نرفضها، فيدفعوننا إلى إعادة صياغة أنفسنا من جديد.
لكن، كما أن النهر يحمل الماء والحصى معاً، يحمل المجتمع الضوء والظلام في آن. الاحتكاك الزائد قد يغمر الروح بأصوات متنافرة، حتى تضيع النبرة الأصيلة لداخلنا. هناك وجوه مبتسمة تخفي خناجر من أحكام جاهزة، وألسنة لا تجيد سوى لغة النقد العقيم. كثرة التعرّض لهذه الموجات قد تجعل الإنسان ينسى صوته الداخلي، أو يلبس ملامح ليست له فقط لينجو من التيار.
هنا تأتي فلسفة التوازن ,أن نتعلم كيف ننخرط من دون أن نذوب، أن نصغي إلى الآخرين من دون أن نصمّ آذاننا عن همس قلوبنا. فالاندماج الكامل قد يسرق فرديتنا، والعزلة الكاملة قد تحرمنا من اتساع التجربة الإنسانية.
المجتمع، في جوهره، ليس جنة ولا جحيماً مطلقا إنه ساحة اختبار. من يدخله بلا وعي، قد يُبتلع في صخبه، ومن يدخله ببصيرة، سيجد فيه مختبراً لصقل أفكاره وصياغة روحه. فنحن لا نعيش لنكون نسخاً من بعضنا، بل لنعرف كيف نحيا بين الآخرين ونحن أوفياء لأنفسنا.
إن الانخراط الاجتماعي ليس قراراً بقدر ما هو فنّ: فن اختيار المسافة الصحيّة، فن البقاء حاضراً بين الناس من دون أن يغرقك صخبهم، وفن التقاط الحكمة من بين ركام الحكايات التي تُروى في المقاهي، وفي صالات الانتظار، وفي الممرات المزدحمة بالحياة.
وفي النهاية، نحن مثل طيور مهاجرة نحتاج أن نحلق مع السرب لنهتدي بالمسار، لكننا نحتاج أيضاً لحظة التحليق وحدنا، كي لا ننسى أن لدينا جناحين من صنعنا، لا من صنع القطيع.
أ. هناء الخويلدي
@Hana69330082
عضو جمعية إعلاميون