في عالمٍ يضجّ بالأصوات، لا يُقاس النضج بقدرتنا على الحديث، بل بقدرتنا على الإصغاء. فالحياة لا تزدهر بالرأي الواحد، بل بتنوّع العقول، وتبادل وجهات النظر التي تُنير بعضها بعضًا. إنّ تقبّل الرأي الآخر ليس مجرّد سلوك اجتماعي، بل هو رُقيّ فكري، وأدبٌ إنسانيّ يعكس عمق الوعي وسعة الأفق.
حين يختلف الناس، تتجلّى الحقيقة في المسافة الفاصلة بين آرائهم، لا في أحدها وحده. فالعقل الواعي لا يخشى الاختلاف، لأنه يدرك أنّ الحقيقة لا تُحتكَر، وأنّ لكلّ إنسانٍ زاوية يرى منها العالم. إنّ احترام تلك الزوايا يعني احترام التجربة الإنسانية بكلّ ما فيها من تباينٍ وتنوّع.
وقد قيل إنّ “العقول الكبيرة تبحث في الأفكار، والمتوسطة في الأحداث، والصغيرة في الأشخاص”. فحين ننشغل بتفنيد الرأي لا بانتقاد صاحبه، نكون قد خطونا خطوة نحو الحرية الفكرية، تلك التي تُحرّر الإنسان من أسر التبعية والتقليد الأعمى.
أما حرية الفكر فهي حقّ أصيل يولد مع الإنسان، لا منحة تُمنح له. بها تتقد الأمم، وتتحرّر العقول من قيود الخوف والرقابة. فمن يمنع الفكر من التحليق، لا يوقفه، بل يدفعه إلى التحايل في الخفاء، فيتحوّل الصمت إلى بركانٍ من الأسئلة المؤجلة.
إنّ الأمم التي تُضيّق على الفكر تُطفئ أنوارها بأيديها، لأنّ التقدّم لا يولد من التماثل، بل من الجرأة على السؤال، ومن الإيمان بأنّ الفكر المختلف لا يهدد الهوية، بل يوسّعها. فالحرية لا تعني الفوضى، كما أن التقبّل لا يعني الاستسلام، بل هو فنّ التوازن بين القناعة والانفتاح، بين الثبات على المبدأ واحترام الآخر.
ولعلّ أجمل ما في الاختلاف أنه يذكّرنا بأننا بشر، لا نملك الحقيقة المطلقة، وأنّ في كلّ رأيٍ بذرة من صواب، وفي كلّ فكرٍ ومضة من ضوء. حين نحاور دون خصومة، وننصت دون حكمٍ مسبق، نصنع عالمًا يتّسع للجميع، تُزهر فيه العقول كما تزهر الحدائق بعد المطر.
فليكن اختلافنا جسرًا إلى الفهم، لا ساحةً للخصام، ولتكن حرية الفكر نبراسًا نهتدي به نحو مجتمعٍ أكثر وعيًا، وإنسانٍ أكثر اتزانًا، يرى في تعدّد الآراء جمال الحياة، لا تهديدها.
“قد أختلف معك في الرأي، لكني مستعد أن أموت دفاعًا عن حقك في أن تقوله.” (فولتير)
أ. وفاء الشهري
@Wafa_aljanoob
عضو جمعية إعلاميون