خلال الأعوام الماضية، تعاقبت موجات من المشاريع التجارية والخدمية في المشهد الاقتصادي، حملت معها وعوداً بالنجاح والتوسع، لكن جزءاً كبيراً منها سرعان ما تلاشى في صمت. فواجهات أُضيئت عند الافتتاح سرعان ما أُغلقت، وأحلام تحولت إلى خسائر، رغم الأموال المستثمرة والحماس الكبير.
بعد التأمل في هذه الظاهرة، يتضح أن العامل الغائب في كثير من هذه التجارب هو البُعد الجغرافي الاقتصادي؛ ذلك الذي يُفترض أن يكون أداة المستثمر الأولى قبل الإقدام على أي مشروع.
فكثير من المشاريع وُلدت في مواقع مزدحمة أو بعيدة عن المستهلك المستهدف، دون دراسة دقيقة لحجم الطلب أو لطبيعة السكان في ذلك الحي أو المنطقة. فكانت النتيجة مشاريع بدأت ضعيفة وذبلت تدريجياً، لأن المكان أصبح عبئاً يقود إلى الفشل وليس شريكاً في النجاح.
ففي بعض الأحياء، تكدست المطاعم والمقاهي والمتاجر المتشابهة حتى أصاب السوق حالة من التشبع، فبات المستهلك موزعاً بين عشرات الخيارات، بينما العائد لا يغطي تكاليف التشغيل. وعلى النقيض، تُركت مدن متوسطة وصغيرة بلا خدمات كافية، وكأنها غير مرئية في خريطة الاستثمار. وهنا يتضح أن تجاهل البُعد الجغرافي كشف غياب الرؤية الاقتصادية لدى المستثمر وصاحب المشروع، وإغفالهما أن الفرص تمتد إلى ما هو أبعد من العاصمة والمدن الكبرى.
ومن أبرز الأمثلة، منشآت تجارية أُقيمت في مواقع تفتقر إلى مواقف سيارات كافية، أو على طرق يصعب الوصول إليها، أو بعيدة عن شبكات النقل العامة. قد تبدو هذه تفاصيل ثانوية، لكنها في عالم التجارة تفاصيل قاتلة؛ فهي تُعقّد وصول الزبائن وتقلّل من فرص عودتهم مجددًا.
كما أن عدداً كبيراً من المشاريع التجارية لم تُبنَ على توافق بين النشاط والبيئة المحيطة. فهناك مقاهٍ شبابية افتُتحت في أحياء يغلب عليها الطابع العائلي، ومشاريع ترفيهية اختارت مواقع بلا كثافة سكانية أو سياحية. هذا الانفصال بين النشاط والمكان يعكس غياب أبسط أدوات التحليل الاقتصادي المكاني.
الواقع أن فشل تلك المشاريع لا يُختزل دائماً في ضعف الفكرة أو قلة رأس المال، بل كثيراً ما يكون انعكاساً مباشراً لغياب الجغرافيا الاقتصادية في دراسات الجدوى. فالمكان عنصر جوهري في المشروع، فهو يحدد جمهوره المستهدف، وحجم مبيعاته، ومدى قدرته على الاستمرار.
لذلك، يعتبر الاستثمار بلا خريطة مكانية دقيقة أشبه بمغامرة غير محسوبة. أما حين يدمج المستثمرون البُعد الجغرافي الاقتصادي في قراراتهم، فإن مشاريعهم تتحول من محاولات فاشلة إلى قصص نجاح مستدامة. فالمكان الجغرافي المناسب هو العنصر الحاسم الذي يصنع الفارق بين الفشل والنجاح.
د. سطام ال سعد
@Sattam_Alsaad
عضو جمعية إعلاميون