مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

دبلوماسية الاستحواذات السعودية

الدبلوماسية السعودية في الاستحواذات الاستثمارية، تمثل وجهًا جديدًا من وجوه القوة الناعمة، إذ لم تعد السياسة الخارجية تعتمد فقط على التحالفات الدبلوماسية أو المبادرات الثقافية، بل أصبحت الاستثمارات العالمية أداة إستراتيجية متقدمة لبسط النفوذ وتوسيع الحضور السعودي في المشهد الدولي، فالمملكة اليوم تدرك أن النفوذ لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى عبر التأثير الاقتصادي، والتموضع الذكي في مفاصل الأسواق الحيوية التي تحرك العالم.

من خلال الرؤية الشمولية التي أرستها رؤية 2030، أصبحت الاستحواذات أداة تكاملية مع السياسات الاقتصادية والثقافية والبيئية، حيث تتجاوز أهدافها الأرباح المالية إلى بناء شبكة نفوذ ناعمة، تمتد من الطاقة إلى الرياضة، ومن التكنولوجيا إلى الترفيه، لتعيد تشكيل صورة المملكة في الأذهان كقوة اقتصادية عالمية متجددة، فحين استثمرت المملكة في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة عبر صناديقها السيادية، أو في الرياضة عبر تنظيم البطولات والاستحواذ على أندية عالمية، لم تكن تبحث فقط عن العوائد المالية، بل كانت تُعيد صياغة علاقاتها مع الشعوب والقطاعات والمؤسسات في العالم بلغة جديدة، لغة التأثير والاستدامة.

هذه الدبلوماسية الاقتصادية ليست ابتكارًا سعوديًا بحتًا، بل استلهام لتجارب دولية راسخة، فقد سبقت بريطانيا إلى استخدام الاستثمار كأداة نفوذ بعد الحرب العالمية الثانية حين دعمت شركاتها في آسيا وأفريقيا لتأمين مصالحها التجارية والسياسية، كما أن الصين اليوم تقدم النموذج الأوضح في توظيف الاستثمارات الدولية كقوة ناعمة عبر مبادرة «الحزام والطريق»، إذ استخدمت البنية التحتية والموانئ كجسور للنفوذ الاقتصادي والثقافي في أكثر من 80 دولة، والولايات المتحدة بدورها مارست هذا النمط منذ عقود من خلال شركاتها العابرة للقارات التي حملت معها القيم الأمريكية، وأسلوب الحياة الغربي إلى كل زاوية من العالم.

أما المملكة فقد اختارت طريقها الخاص في هذا المسار طريقًا يستند إلى الشرعية التنموية لا الهيمنة السياسية، فهي لا تسعى إلى السيطرة على الدول، بل إلى بناء شراكات إستراتيجية تخلق مصالح مشتركة وتُظهر الوجه الحضاري للمملكة، وعبر صندوق الاستثمارات العامة، باتت المملكة من أكبر المستثمرين السياديين في العالم، حيث تجاوزت استثماراتها حدود الطاقة التقليدية لتشمل مجالات الذكاء الاصطناعي والسيارات الكهربائية والرياضة والترفيه، ما جعلها لاعبًا مؤثرًا في صياغة مستقبل الاقتصاد العالمي.

وهنا تتجلى الفلسفة السعودية في تحويل رأس المال إلى أداة تواصل حضاري، فبدلاً من أن تكون الاستثمارات مجرد صفقات مالية، أصبحت وسيلة لبناء سردية وطنية حديثة تعكس رؤية المملكة في التنمية المستدامة والتنوع الاقتصادي والتعايش الثقافي، فالاستحواذات الكبرى لم تعد تقتصر على تحصيل الأرباح، بل أصبحت تمثل لغة جديدة من لغات الدبلوماسية، تفتح الأبواب المغلقة، وتعيد رسم التحالفات بطريقة أكثر استقرارًا وعمقًا.

ما تفعله المملكة اليوم من خلال استثماراتها الخارجية هو كتابة فصل جديد في مفهوم القوة الناعمة، فصل لا يقوم على الخطاب، بل على الفعل، فالعالم ينصت لمن يملك زمام الاقتصاد، ويتأثر بمن يتحكم في مفاصل التكنولوجيا والطاقة والترفيه، وهنا تتقدم المملكة لتصبح رقمًا صعبًا في معادلة النفوذ الدولي، تجمع بين الرؤية والطموح، بين الأصالة والتجديد، لتؤكد أن القوة في القرن الحادي والعشرين لا تُقاس بعدد الجيوش، بل بقدرة الدولة على الاستثمار في المستقبل وصناعته بذكاء وهدوء.

 

د. أصيل الجعيد
AAljaiedlaw@
عضو مجلس إدارة جمعية إعلاميون

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop