مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

دورة حياة الجهات الحكومية

تمر الجهات الحكومية في السعودية بدورة حياة يمكن النظر إليها باعتبارها جزءًا من فلسفة الحوكمة العامة للدولة. تبدأ هذه الدورة بالتأسيس حين تقتضي الحاجة إنشاء جهاز جديد لمعالجة قضية محددة أو دعم قطاع ناشئ أو تنفيذ رؤية إستراتيجية وطنية. ويكون التأسيس عادة بقرار سامٍ يحدد اختصاصات الجهة وأهدافها وآليات عملها، ليعكس طبيعة الأولويات في مرحلة معينة من مسيرة التنمية.

ومع مرور الوقت تدخل الجهة مرحلة النمو والتوسع، حيث تبني هياكلها الإدارية وتستقطب الكفاءات وتطور التشريعات اللازمة لممارسة مهامها. في هذه المرحلة يكون التركيز على الأداء والقدرة على تحويل الموارد إلى أثر ملموس يخدم المواطنين أو يدعم الاقتصاد الوطني. وقد تتوسع بعض الجهات لتصبح لاعبًا رئيسا في قطاعها، بل وتكتسب بعدًا دوليًا من خلال الشراكات والمبادرات العالمية، كما حدث مع بعض الهيئات الثقافية والاقتصادية التي برزت بعد إطلاق رؤية 2030.

لكن دورة الحياة لا تتوقف عند النمو، بل تأتي مرحلة التقييم. هنا تلعب الحوكمة دورًا حاسمًا، إذ تُراجع إنجازات الجهة عبر مؤشرات أداء دقيقة، ويتم فحص مدى كفاءتها في استخدام الموارد وفاعليتها في تحقيق الأهداف المرسومة. إذا ظهر أن هناك تداخلًا بين جهات مختلفة أو ازدواجية في المهام، تبدأ الحاجة إلى إعادة الهيكلة. هذه المراجعة ليست شكلية، بل هي أداة لإبقاء الجهاز الحكومي في حالة مرنة ومتجاوبة مع المتغيرات.

عندها قد يُتخذ قرار الدمج. الدمج ليس مجرد تقليص نفقات، بل هو وسيلة لخلق انسجام تنظيمي أكبر وتعزيز الكفاءة. عندما يتم دمج جهتين متشابهتين، تصبح المنظومة أكثر وضوحًا ويُوجّه الجهد نحو النتائج بدلًا من تكرار المهام. وفي حالات أخرى، قد تصل الجهة إلى مرحلة الإلغاء. فهناك جهات أنشئت لأغراض مؤقتة أو لمرحلة انتقالية محددة، وبعد أن تُؤدي دورها يصبح استمرارها غير ضروري. في تلك اللحظة، يتم نقل صلاحياتها إلى جهات أخرى أو إنهاء عملها، ليكون الإلغاء جزءًا طبيعيًا من دورة حياتها.

وإذا نظرنا إلى التجارب الدولية، نجد أن هذا النمط ليس خاصًا بالسعودية. ففي بريطانيا على سبيل المثال، خضعت الهيئات شبه الحكومية المعروفة باسم «Quangos» لمراجعات متكررة أدت إلى إلغاء مئات منها ودمج عشرات أخرى عام 2010 بهدف رفع الكفاءة وتجنب ازدواجية العمل. وفي الولايات المتحدة، تأسست وزارة الأمن الداخلي عبر دمج 22 وكالة أمنية بعد أحداث 11 سبتمبر، في حين أُلغيت وكالات مؤقتة مثل وكالة إعادة الإعمار بعد انتهاء دورها. أما كندا، فقد اتجهت إلى الدمج لتبسيط الخدمات كما حدث عند توحيد وزارتي الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية. وفي سنغافورة، تتجسد المرونة في أوضح صورها، حيث تُنشأ مجالس وهيئات مؤقتة لإدارة ملفات محددة، ثم تُدمج أو تُلغى بمجرد تحقيق الهدف.

ما يميز هذا النهج أن الدولة تنظر إلى الجهات الحكومية باعتبارها أدوات مرنة قابلة للتشكيل وفقًا لمتطلبات التنمية، لا كيانات جامدة تعيش إلى الأبد. وهنا تتجلى الحوكمة باعتبارها فلسفة لإدارة الدولة: إنشاء عند الحاجة، توسع لتحقيق الأثر، تقييم لمراجعة الأداء، ودمج أو إلغاء عند انتهاء الدور. هذه الديناميكية ليست حكرًا على السعودية وحدها، بل هي جزء من ممارسة عالمية أثبتت أن الإدارة العامة الفعّالة لا تتردد في إعادة هيكلة مؤسساتها بما يتماشى مع أولوياتها الوطنية. وبهذا المعنى، تكون السعودية منسجمة مع التوجه الدولي حين تعيد صياغة منظومتها المؤسسية ضمن رؤية 2030، لتبقى مؤسساتها في حالة تجدد دائم تعكس طموحها التنموي.

 

د. أصيل الجعيد
AAljaiedlaw@
عضو مجلس إدارة جمعية إعلاميون

 

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop