مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

رحلة في عالم التفاصيل المهملة

التفاهة ليست وصفا للأشياء بحد ذاتها بل هي حكم نصدره نحن بناء على معاييرنا وثقافتنا، وحين نتأمل هذا المفهوم فلسفيًا، نجد أنه يحمل أبعادا أعمق مما يبدو إذ أن ما نعتبره تافها.
قد يكون المفتاح لفهم نماذج أوسع للحياة والوجود، فما هي التفاهة إن لم تكن انعكاسا لحدود وعينا ورغبتنا في التركيز على (المهم) فقط؟

(التفاصيل تصنع الكمال والكمال ليس تفصيلاً) هذا ما قاله دافنشي، لكن ألسنا نحن البشر من نغرق في التفاصيل الصغيرة ونصنف بعضها بالتفاهة ،فقط لأننا لم نعد نملك القدرة على رؤية ما وراء السطح؟ هنا تبدأ رحلتنا في عالم (التفاهة) ليس بوصفها نظرة ساخرة إلى ما هو صغير بل باعتبارها مدخلاً إلى عوالم فلسفية أعمق تعيد تشكيل الطريقة التي ننظر بها إلى الحياة.

حين تتأمل كوب القهوة على الطاولة قد يبدو لك في بادئ الأمر مجرد وعاء بسيط يؤدي غرضه المعتاد لكن ماذا لو تعمقت قليلاً في هذا الكوب؟ ستجد أن بداخله تكمن قصص متشابكة بدايةً من الطبيعة التي وفرت الماء مرورا بالمصانع التي صنعت الزجاج وصولا إلى اليد التي وضعته أمامك ، كل تفصيلة هي جزء من شبكة من الأحداث والقرارات والاحتمالات التي اجتمعت في لحظة واحدة لتخلق ما يبدو لك (تافها)، فهل هو كذلك؟

إن الفلسفة تعلمنا أن أي شيء مهما بدا صغيرا أو غير ذي أهمية يمكن أن يتحول إلى بوابة لفهم أكبر للحياة فالتفاصيل الصغيرة هي المرايا التي تعكس الكل، كل ذرة تحمل في طياتها الكون بأسره ولكننا كبشر غالبا ما نتجاهل تلك الذرات لأن عقولنا مشغولة بالكبير والمبهر وما يُعتقد أنه يستحق الاهتمام، خذ على سبيل المثال تجربة بسيطة قد تمر بها يوميًا مثل الانتظار بالطوابير في شتى مجالات الحياة قد يبدو هذا الحدث لحظةً فارغة من أي معنى لكنه في الحقيقة يحمل في داخله فلسفة الوجود ذاته هنا نجد أنفسنا محاصرين بين الوقت والإرادة بين التقدم والتوقف وفي هذا التوقف القسري تكمن فرصة لفهم شيء أكبر ، كيف تتحكم الحاجة فينا؟ كيف نمنح المعاني لأبسط الأشياء؟ وكيف أن حياتنا كلها قد تكون سلسلة من الانتظارات الطويلة لتلك الطوابير.

لكن ما الذي يجعل شيئا تافها يتحول فجأة إلى شيء عميق؟ الجواب يكمن في الوعي ، التفاصيل تصبح عميقة حينما نمنحها الاهتمام الذي تستحقه حين ننظر إليها لا بوصفها أشياء قائمة بذاتها بل باعتبارها أجزاء من صورة أكبر ، الكلمة العفوية التي نسمعها من شخص غريب في الشارع قد تبدو بلا قيمةلكنها قد تحمل في طياتها حكمة تختصر دروسا استغرقت منا سنوات لفهمهاوهنا نوقن إن السطحية ليست دائما عيبا السطحية أحيانًا هي الحجاب الذي يخفي وراءه العمق نحن نعيش في عالم مليء بالسطحيات نرى الإعلانات البراقة نستهلك الأفكار السريعة نمر بالأشياء دون أن نلاحظها لكن السطحية نفسها قد تكون وسيلة لفهم العمق إذا أعدنا التفكير في طبيعتها فلا يمكنك ان تصل لفكرة دون ان تمر بجهد الوصول اليها.

إن مفهوم التفاهة ينبع من العقل الإنساني نفسه حيث يميل البشر إلى تصنيف الأمور بناء على أولوياتهم فالتفاصيل الصغيرة التي تبدو غير ذات أهمية تظل في الهامش حتى يبرز وعي جديد يعيد تشكيل نظرتنا إليها ، الفلسفة بوصفها نشاطا فكريا يهدف لفهم الجوهر تتحدى هذا التصنيف فكل شيء في الوجود يحمل في طياته إمكانية للفهم كل شيء يمكن أن يكون نافذة على معنى أوسع إذا منحناه الانتباه الكافي.

حين نتحدث عن التفاصيل الصغيرة فإننا في الحقيقة نقترب من جوهر الوجود نفسه فالحياة ليست سوى سلسلة من التفاصيل المتشابكة التي تتجمع لتشكل التجربة الكاملة ، هذا المصطلح المنبوذ ليس سوى سطحٍ نراه لأننا اخترنا عدم النظر إلى العمق إنها ليست خاصية موضوعية بل نتيجة لطريقة إدراكنا ، التفاصيل الصغيرة تمثل البنية الأساسية للواقع العالم بأسره مكون من عناصر دقيقة بعضها يبدو عديم الأهمية لكن كل عنصر يساهم في تشكيل الكل إذا فقدنا أي جزء صغير فإن الصورة الكاملة ستختل .

السطحية من زاوية فلسفية ليست عدوا للعمق إنها البوابة الأولى ولكن المشكلة أننا غالبا ما نقف عند هذه البوابة ننظر إلى ما يبدو لنا بسيطا دون أن ندرك ما يختبئ خلفه وهذا يعكس نقصا في التأمل والقدرة على رؤية العلاقات التي تربط التفاصيل ببعضها البعض ، إن عمق الأشياء لا يكمن فيها كموضوعات منفصلة ، بل في الشبكة التي تربطها وهذه الشبكة لا يمكن إدراكها دون الغوص في ما يبدو تافها العقل الذي يفهم أهمية التفاصيل هو عقل يتجاوز الإدراك السطحي ويبحث عن الأنماط عن الروابط وعن الأسباب التي تجعل من الشيء الصغير جزءا من كيان أكبر.

ما يجعل التفاهة ذات أهمية فلسفية هو قدرتها على تحدي تصوراتنا التقليديةوهي دعوة لإعادة النظر في ما نعتبره ذا قيمة وما نعتبره غير ذي أهمية. وحين نتأمل بعمق ندرك أن الأشياء التي نهملها أو نتجاهلها ليست سوى تعبير عن كبرياء عقلي يرفض التعامل مع ما لا يراه معقدا أو مثيرا للاهتمام ، إعادة التفكير تتطلب تغييرا في الطريقة التي نُدرك بها العالم علينا أن نرى أن التفاصيل الصغيرة ليست مجرد هامش بل هي الأساس أن نفهم أن ما يبدو بلا معنى قد يحمل بداخله جوهر الحياة هذا ليس مبالغة بل حقيقة مدعومة بتأمل فلسفي يبتعد عن المظاهر ويبحث عن الجوهر ، العمق لا يأتي دائما من الأحداث الكبرى أو الأفكار المعقدة إنه يكمن في قدرتنا على رؤية الصورة الكاملة من خلال الجزئيات الصغيرة فالسطحية إذن ليست سوى نتيجة لعيون لم تتعلم كيف ترى أما العمق فهو مكافأة لمن يتجاوز الحكم السريع ويرى الأشياء على حقيقتها بكل أبعادها الدقيقة.

إعادة النظر في مفهوم التفاهة يفتح أبوابا لفهم أعمق للوجود إنها دعوة لأن نتوقف عن اعتبار ما هو صغير وغير مرئي أمرا بلا أهمية حين نفعل ذلك نكتشف أن الحياة بأسرها تكمن في التفاصيل التي كنا نعتبرها غير ذات قيمة.

 

أ. سعد أبو طالب
‏wyq1217351@
عضو جمعية إعلاميون

 

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop