مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

مرحلة إنزال الناس منازلهم

 

في العمر العاطفي للإنسان مرحلة متأخرة لا يبلغها إلا من خاض دهاليز التجارب وتذوّق طعم الخيبة حتى اكتفى. مرحلة لا تُقاس بالسنوات بل بالنضج، ولا تُمنح صدفة، بل تُكتسب بثمنٍ من الوجع والتأمل. إنها مرحلة إنزال الناس منازلهم، حين يُصبح القلب أكثر وعيًا، والعقل أكثر رحمة، والنظرة إلى الناس أكثر اتزانًا وعدلًا.

في بداياتنا، نمنح بكرمٍ لا يعرف حدودًا، ونغفر بلا حساب، لأننا نظن أن النقاء كفيل بأن يُثمر وفاءً، وأن العاطفة الصادقة تُبدّل القلوب كما تُبدّل الشمس وجه الصباح. غير أن الأيام تُعلّمنا أن الصفاء لا يُورث صفاءً بالضرورة، وأن بعض الوجوه تبتسم بنورٍ مستعار، وأن في البعد أحيانًا طوق نجاةٍ من غرقٍ وشيك.

وحين تتراكم الدروس، ينشأ فينا توازنٌ جديد؛ نُصبح أقل اندفاعًا وأكثر فهمًا، لا نُعادي أحدًا، لكننا لا نسمح لأحدٍ أن يعبث بما تبقّى من سلامنا. نُنزِل كلّ إنسانٍ منزلته اللائقة به: من يستحق القرب نُبقيه قريبًا، ومن لا يعرف قدرنا نضعه حيث ينتهي أثره، لا حيث تبدأ قلوبنا.

في هذه المرحلة، لا نُفسّر الصمت، ولا نُبرّر الغياب، لأن الحكمة صارت تتحدث عنّا. نُحبّ بعمقٍ متزن، لا يُغرق ولا يُجرف، ونثق بحذرٍ رقيق لا يُطفئ المودّة لكنه يحرسها من الوهم. نُدرك أن الاحترام أرفع من التعلّق، وأن الكرامة لا تُساومها مشاعر مهما عظُمت.

تأتي هذه المرحلة متأخرة، لكنها حين تحلّ، تُنقذنا من عشوائية القلب، وتُعيد إلينا أنفسنا التي أرهقها الإفراط في حسن الظن. هي ذروة النضج العاطفي؛ لحظة التصالح مع التجارب، حين لا نندم على أحدٍ مرّ، ولا نرجو عودة أحدٍ غاب.
ففيها نفهم أخيرًا أن العدل في الحبّ لا يقلّ جمالًا عن الحبّ نفسه، وأن الحكمة آخر ما تهبه الحياة لمن أرهقته المشاعر حتى النضج.

 

أ. ربيعة الحربي
@RBS_2030
عضو جمعية إعلاميون

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop