تسير موجة الشهرة اليوم، عبر طرق مختصرة، حيث يتقدَّم أصحاب المحتوى «التَّافه» إلى الصفوف الأولى، يكتسبُون جماهيريَّة واسعة، ويحتلُّون المساحات العامَّة في منصَّات التواصل. المفارقة أنَّ النقد الموجَّه لهم لا يُضعف حضورهم، وإنَّما يتحوَّل إلى وقود جديد يُضاعف من زخمهم، فيغدو الحديث عنهم سببًا في استمرارهم وانتشارهم.. وهكذا يصبح السؤال عن معنى التَّفاهة نفسه؛ وسيلة تمنحها حضورًا أكبر من حيث لا نشعر. الجمهور ذاته شريك في هذه الدَّوامة، إذ يُقاد بدافع الفضول، وبدافع الصَّدمة من أنَّ هؤلاء لا يُمثِّلوننا، فينجذب لمشاهد لم يكن يتوقَّع وجودها، أو لم يتخيَّل أنْ تصل إلى هذا القدر من الانحدار. المفاجأة تصنع الرغبة في التحقُّق، ومع كل مشاهدة ترتفع الأرقام، ويزداد نفوذ هؤلاء الذين يُجيدُون صناعة حضور سريعٍ وسطحيٍّ في آنٍ واحدٍ.
غير أنَّ الخطر الحقيقي لا يقتصر على طبيعة المحتوى، لكنَّه يمتدُّ إلى تحوُّل الشخص نفسه. فالمؤثِّر الذي بدأ بخطاب إيجابيٍّ، أو فكرة مقبولة، سرعان ما يبتعد عن جوهره تحت ضغط الأضواء والزحام الرقميِّ. تراه يتبدَّل في كلماته وتصرُّفاته حتى يفقد الصِّلة مع صورته الأولى. وعندما يتعرَّض للانتقاد، يُفسِّر ذلك بالغيرةِ أو ضريبة الشُّهرة، متناسيًا أنَّ فقدان التوازن هو ما صنع الفجوة بينه وبين متابعيه.
المشهد الرقمي بهذه الطريقة، ينتج فراغًا واسعًا. ومع تكرار الأسماء والوجوه ذاتها في كل مكان، يصبح المجال العام فقيرًا بالتنوُّع، فتتسلَّل الأصوات الصاخبة لتملأ هذا الفراغ. وهنا تكمن المشكلة: غياب البدائل الرَّصينة، وانكفاء بعض وسائل الإعلام عن دورها التنويريِّ، يفتح الباب أمام التَّفاهة لتتصدَّر المشهد بلا منازع.
الحاجة اليوم ملحَّة لإعادة الاعتبار للإعلام الواعي، ذلك الذي يفتح أبوابه لوجوهٍ جديدةٍ تحمل المعرفة والتجديد، ويتيح لهم الظهور في البرامج والمنتديات والمؤتمرات. فوجود مسارات بديلة يُخفِّف من سطوة المحتوى الفارغ، ويخلق بيئةً أوسعَ للنقاش والتعبير. فحين تتراجع الهيمنة القائمة على الفراغ، يبدأ المجتمع في استعادة توازنه، ويمنح مكانةً لمَن يستحقُّها، لا لمَن يقتنصها عبر الإثارة والضوضاء.
أ. أحمد الظفيري
@aahdq
عضو مجلس إدارة جمعية إعلاميون