مرحباً بكم فى جمعية اعلاميون

مكتب تحليل البيانات في المؤسسات الإعلامية

تتكدّس في أرشيف الصحف السعودية، والقنوات الإعلامية المرئية والمسموعة، آلاف المواد الإخبارية والتقارير الصحفية والتغطيات الوثائقية التي تمثّل كنزًا معلوماتيًا لا يُقدّر بثمن. هذه المادة الثرية، المتراكمة على مدار عقود، تتضمن مشاهد نادرة، وتحليلات عميقة، وأحداث مفصلية في تاريخ المملكة، ولكنها – وللأسف – ما زالت حبيسة الأدراج، أو مجرد أرشيف رقمي لا يُستفاد منه بالشكل الأمثل.

السؤال هنا، لماذا تبقى هذه المادة الثمينة مجرّد أرشيف ساكن، بدلًا من أن تتحوّل إلى قيمة اقتصادية، وأثر اجتماعي، وسلاح ناعم في معركة التأثير الإعلامي والسياسي؟ هنا تحديدًا، يتجلى الدور المحوري لمكتب تحليل البيانات داخل المؤسسات الإعلامية.

إنّ مكتب تحليل البيانات هو وحدة استراتيجية داخل الصحيفة أو القناة، تتألف من محللي بيانات، ومختصين في الذكاء الاصطناعي، وخبراء في المحتوى الإعلامي، تتكامل أدوارهم في تفكيك المواد الأرشيفية وتحويلها إلى بيانات ذكية قابلة للتحليل وإعادة التوظيف، بما يخدم أهداف المؤسسة الإعلامية على المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية.

يمثل الأرشيف الإعلامي فرصة اقتصادية ضخمة غير مستغلة، إذ يمكن تحويل الوثائق القديمة إلى محتوى ربحي عبر إنتاج أفلام وثائقية وسلاسل بودكاست ومحتوى رقمي جذاب يُسوّق على المستوى المحلي والدولي. كما يمكن بيع التقارير والتحليلات المؤرشفة إلى الشركات والجهات الأكاديمية والباحثين وصناع القرار الباحثين عن معطيات موثقة لدعم أعمالهم ودراساتهم. ويضاف إلى ذلك إمكانية تطوير خدمات اشتراك مميز، تُقدَّم من خلالها تقارير تحليلية حصرية، تستخرج من الأرشيف وتُصاغ بأسلوب معاصر يُرضي جمهورًا نوعيًا مستعدًا للدفع مقابل محتوى عميق ومهني.

ويمتد أثر تحليل البيانات الإعلامية إلى البعد الاجتماعي، من خلال إحياء الذاكرة الوطنية وإعادة سرد القصص السعودية المؤثرة بطريقة ذكية، تعتمد على تحليل أنماط الأحداث والتفاعل معها. ويسهم ذلك في تثقيف الأجيال الجديدة عبر تقديم محتوى معرفي مبني على بيانات وتحليلات واقعية من أرشيف إعلامهم الوطني، يعزز الانتماء ويغذي الوعي الجماعي. كما يساعد في رصد التحولات الاجتماعية والفكرية وربطها بالحقب الزمنية المختلفة، ما يتيح قراءة دقيقة للمجتمع وتحولاته وفق مقاربة علمية معمّقة.

أما على المستوى السياسي والاستراتيجي، فإن وحدة تحليل البيانات قادرة على إنتاج محتوى موجه يعكس العمق السعودي في مجالات الأمن والتنمية والحوكمة، ويخاطب الداخل والخارج بلغة الأرقام والسرد التحليلي. كما تمكّن الصحف والقنوات من الرد على الحملات المغرضة بمحتوى موثق ومدعوم بتحليل دقيق وسرد تاريخي ذكي يقلب الصورة النمطية ويعزز المصداقية. وإضافة إلى ذلك، تدعم هذه الوحدة السياسات الوطنية من خلال تحليل اتجاهات الرأي العام، ورصد التغيرات في التغطيات الإعلامية الدولية تجاه المملكة، ما يجعلها أداة حيوية في خدمة القرار السيادي وصياغة الخطاب الوطني.

لقد أدركت كبريات الصحف العالمية أن البقاء في مشهد إعلامي متسارع لا يتحقق إلا بالعقل التحليلي لا الانطباعي.

ففي الولايات المتحدة، أنشأت نيويورك تايمز وحدة علم البيانات داخل غرفة الأخبار لتوجيه القرارات التحريرية بناءً على سلوك القراء وتحليل أنماط التفاعل. وفي بريطانيا، دمجت الجارديان فرق البيانات بالتصميم البصري لإنتاج تقارير تفاعلية معمّقة، أشهرها تحقيق The Counted الذي وثّق ضحايا عنف الشرطة باستخدام تقنيات تحليلية متقدمة. أما واشنطن بوست، فاعتمدت على أدوات تحليل داخلية متقدمة لتحسين توقيت النشر وصياغة العناوين بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور. وفي فرنسا، خصصت لوموند وحدة مستقلة لتحليل المحتوى وتوسيع الانتشار الرقمي، مستندة إلى بيانات فعلية وسلوك القرّاء.

ولتحقيق التحول من النشر التقليدي إلى الإعلام الذكي، يُعد تأسيس «وحدة تحليل البيانات الإعلامية» داخل كل صحيفة سعودية كبرى خطوة محورية، تُبنى على خمسة أعمدة رئيسية:

– تقوم وحدة تحليل البيانات الإعلامية على استقلال تنظيمي يضمن فاعليتها، حيث تُربط مباشرة برئاسة التحرير أو بمجلس إدارة الصحيفة، لتكون أداة تأثير مباشر في صناعة القرار التحريري. وتتكون هذه الوحدة من فريق متعدد التخصصات يشمل محللي بيانات قادرين على معالجة الأرقام وتحويلها إلى مؤشرات قابلة للتنفيذ، ومختصين في سلوك الجمهور الرقمي يدرسون أنماط التفاعل، بالإضافة إلى خبراء ذكاء اصطناعي يطوّرون الأدوات التحليلية، وصحفيين تحليليين قادرين على الربط بين البيانات والمحتوى التحريري، إلى جانب مصممين بصريين لتحويل النتائج إلى قصص مرئية تفاعلية.

– تتولى الوحدة مهام تحليل تفاعل القراء مع المحتوى المنشور لحظيًا، مما يتيح للصحيفة فهم المزاج العام للجمهور في الوقت الحقيقي. كما تعمل على تحديد نوعية المحتوى الأكثر انتشارًا وتأثيرًا عبر المنصات المختلفة، وتقديم توصيات تحريرية دقيقة، تشمل توقيت النشر الأمثل، وصياغة العناوين الجاذبة، وتحديد المواضيع ذات الأولوية التحريرية. علاوة على ذلك، تسهم في تحليل الأداء التاريخي للمحتوى، ما يساعد في بناء قاعدة معرفية بأنماط التفاعل طويلة الأمد.

– يعتمد النموذج على التكامل الكامل بين وحدة تحليل البيانات ونظام إدارة المحتوى (CMS)، من خلال تغذيتها ببيانات مستمرة من أدوات مثل Google Analytics، ووسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات الاشتراكات الرقمية، بالإضافة إلى نتائج الاستبيانات التفاعلية. كما تتضمن الوحدة تطوير لوحة تحكم يومية وتفاعلية، تسمح لغرفة التحرير برصد مؤشرات الأداء بشكل مباشر واتخاذ قرارات مدروسة بناء على بيانات دقيقة، لا على الحدس أو الانطباع.

– ينتج عن هذه الوحدة حزمة مخرجات استراتيجية تعزز جودة العمل التحريري، من ضمنها تقارير أسبوعية وشهرية تُستخدم في تقييم الأداء واتخاذ قرارات تحريرية وإدارية ذكية، ومحتوى بصري تفاعلي موجه للقراء في شكل قصص مدفوعة بالبيانات، بالإضافة إلى ملفات استقصائية مدعومة بالأرقام والتحليلات، وخطط نشر موسمية تواكب اهتمامات الجمهور بناءً على تحليل التوجهات والتغيرات السلوكية.

– تؤدي هذه الوحدة إلى زيادة التفاعل مع المحتوى ورفع معدلات الاشتراك الرقمي، مما يفتح قنوات دخل جديدة ومستدامة للصحف. كما تسهم في تقديم محتوى تحليلي فريد من نوعه، يعزز من مكانة الصحيفة كمصدر موثوق ومتميز، ويُعيد ثقة الجمهور بها في ظل المنافسة الرقمية المحتدمة. والأهم من ذلك، أنها تدعم الدور الوطني للإعلام في التأثير الإيجابي، وصناعة الوعي، والقيام بوظيفته الاستراتيجية كمصدر للمعلومة والتحليل في آنٍ معًا.

الإعلام السعودي لا يعاني من نقص في الموارد، بل من ضعف في إعادة التوظيف الاستراتيجي لها. ومكتب تحليل البيانات هو المفتاح الذي يحوّل الأرشيف إلى ثروة، والذاكرة إلى سلاح، والمعلومة إلى تأثير. ليكون فاعلاً في مشروع التحوّل الوطني نحو رؤية 2030.

 

د. سطام آل سعد
‏@Sattam_Alsaad
عضو جمعية إعلاميون

 

شارك المقالة
جميع الحقوق محفوظه جمعية اعلاميون © 2021
الأعلىtop