في اللحظة التي هبط فيها وفد الاستثمار السعودي في مطار دمشق، بدا المشهد للوهلة الأولى كمنتدى اقتصادي عابر أو خطوة رمزية ضمن مسار الانفتاح، لكنه في جوهره كان تحوّلًا جذريًا في نمط العلاقات العربية – العربية، تقوده السعودية بذكاء سياسي واقتصادي فاعل.
فالمملكة لا تدخل سوريا بوصفها شريكًا منافسًا يتفاوض على المكاسب والخسائر، إنما كراعٍ تنموي يُدرك حجم الدمار الذي أصاب بلدًا عربيًا شقيقًا، ويؤمن بأن إعادة بنائه تتجاوز لغة الأرقام والمصالح، نحو رؤية أوسع قوامها الشراكة والمسؤولية والنهضة المشتركة.
وهذه الرؤية تعبّر عن سياسة سعودية حكيمة تُدار بأدوات اقتصادية وتنموية ناعمة، تنطلق من فهم عميق للواقع السوري واحتياجاته، وإدراك دقيق لحساسية المرحلة وتوازنات المنطقة. إنها ليست استثمارًا تقليديًا تُحرّكه المصالح أو تمليه الشروط، بل تعبير عن فلسفة تنموية تقودها المملكة برؤية عميقة.
ما تشهده دمشق اليوم هو تجسيد عملي لنموذج سمو ولي العهد -حفظه الله- «نموذج محمد بن سلمان»، المستلهم من رؤية 2030، لكن في نطاق عربي. فهو نموذج سعودي خالص، يُحوّل أدوات التنمية إلى وسائل تمكين مباشرة، وينظر إلى سوريا كفضاء استراتيجي ينبغي إعادة تأهيله ضمن مشروع أوسع للأمن والاستقرار والتنمية في العالم العربي. هذا التحول يعكس رقيًا في فلسفة المملكة، بوصفها فاعلًا تنمويًا إقليميًا يُعيد تشكيل المنطقة بأدوات المستقبل، لا بمنطق الماضي.
ويمكن قراءة هذا التحول ضمن إطار أوسع يُعرف بـ «السياسة المستدامة»، وهي تقوم على بناء علاقات طويلة الأمد تستند إلى التنمية المشتركة، لا التنافس المرحلي أو الاعتبارات قصيرة الأمد. فالسعودية لم تنظر إلى سوريا كحالة سياسية تجاوزها الزمن أو كسوق واعدة فقط، بل كعمق استراتيجي عربي يحتاج إلى رعاية وإعادة بناء. وفي هذا السياق، تصبح أدوات الاقتصاد والإعمار والدعم المؤسسي جوهر السياسة، لا بديلاً عنها، وتُدار الملفات الجيوسياسية بعقل تنموي لا بعصا أمنية.
وفي ظل الفراغ الدولي والإقليمي في ملف إعادة الإعمار، تدخل المملكة بثقة وهدوء، لتقول للعالم: «نحن هنا»؛ من خلال إنشاء المصانع، وتطوير البنية التحتية، وتأسيس البنوك المشتركة، وتنظيم المعارض التصديرية، وتوفير فرص العمل، وإطلاق خطط تنموية قابلة للقياس.
والأهم أن هذا التوجه يفتح أفقًا لنموذج جديد في العلاقات الإقليمية، يوازن بين الواقعية السياسية والمسؤولية التنموية، ويُعيد تأسيس منظومة اقتصادية عربية مترابطة، تنتقل من منطق التنافس إلى منطق التكامل، ومن التعامل مع الكوارث إلى صناعة الأمل من ركامها.
وباختصار، ما تقوم به المملكة في سوريا، هو برنامج تنموي وحضاري واستراتيجي، يُعيد تشكيل المنطقة وفق رؤية سعودية تتسم بالحكمة والفاعلية، والمعروفة بـ «نموذج محمد بن سلمان».
د. سطام ال سعد
@Sattam_Alsaad
عضو جمعية إعلاميون