في ثقافتنا الحديثة، تسلّلت إلينا قاعدة غير مكتوبة، لكنها أصبحت سيفًا على رقاب كل من يتجرأ على التعبير عن رأيه بوضوح: “إياك أن تعمّم!”، وإلا وُصِفت بالجهل، وضِيق الأفق، وربما العنصرية. أصبح كل من يتحدث عن سلوك أو ظاهرة، مهما كانت منتشرة، مطالبًا بأن يضع في نهاية حديثه عبارة التبرئة: “لا أقصد الجميع.. بل البعض”.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو:
هل التعميم دائمًا خطأ؟ وهل عدم التعميم دائمًا حكمة؟
التعميم بين الواقع والخوف..
في الأصل، التعميم هو أداة عقلية يستخدمها الإنسان لتكوين صورة عن محيطه من خلال الملاحظات المتكررة. حين يرى الطفل أن النار تحرق، فإنه يعمم هذه القاعدة على كل أنواع النار، وهذا ليس جهلًا، بل فهمًا مبنيًا على التجربة. كذلك، حين يلاحظ المجتمع أن ظاهرة ما تتكرر بين فئة معينة، فإن الحديث عنها بصيغة عامة لا يعني بالضرورة الطعن في الجميع، بل التنبيه على ما أصبح ظاهرًا ومؤثرًا في السلوك العام.
لكننا اليوم نعيش في بيئة تُبالغ في الحساسية، وتخشى المواجهة، وأصبحنا نرتدي قفازات بيضاء في كل حديث، ونمشي على أطراف الكلمات. لماذا؟ لأن الهجوم أصبح أسرع من الفهم، والتصنيف أسهل من النقاش. لذا، أصبح الكثيرون يخشون قول الحقيقة، ويستبدلون الصراحة بالتحايل اللغوي.
هل التعميم = جهل؟
يردد البعض أن “التعميم لغة الجهلاء”، وهذه المقولة لوحدها تحتاج إعادة نظر. فالعاقل لا يطلق الأحكام من فراغ، وإن عمّم، فهو يعمم بناءً على ملاحظة وتكرار واستقراء. أما الجاهل، فهو الذي يحكم على الكل من تجربة شخصية واحدة أو رأي مسبق.
إذن، الفرق ليس في التعميم نفسه، بل في منطلق التعميم:
_إن كان مبنيًا على تجربة أو ملاحظة لظاهرة واضحة: فهو استقراء.
_وإن كان مبنيًا على عاطفة أو موقف شخصي: فهو ظلم وجهل.
بالتالي، لا يمكن أن نقول إن كل تعميم هو خاطئ، كما لا يصح أن نجعل من الاستثناء قاعدة لإلغاء الحديث عن الأغلبية.
الماضي كان أكثر صدقًا..
حين نتأمل في أحاديث القدماء، نجد أنهم كانوا أكثر وضوحًا ومباشرة. لم يكن أحد يتوقف بعد كل جملة ليقول: “أنا لا أعمم”. كانوا يقولون رأيهم بصراحة، دون خوف من أن يُساء فهمهم. كانت الكلمة لها وقعها، لكنها لم تكن تُفسَّر دومًا على أنها اتهام للجميع، بل كانت تُؤخذ في سياقها الطبيعي.
أما اليوم، فقد أصبح الخوف من الانتقاد أقوى من قول الحقيقة. وبدل أن نقف عند المشكلة، أصبحنا ننشغل بالدفاع اللغوي عن أنفسنا حتى لا نُفهم خطأً. والنتيجة؟ أصبحنا مجاملين أكثر مما ينبغي، ومنافقين دون أن نشعر.
متى يجوز التعميم؟
عندما تتكرر الظاهرة في أكثر من 50٪ من المشاهدات أو الحالات، فإن التعميم يصبح ليس فقط مبررًا، بل أحيانًا واجبًا لتحذير الناس أو لفتح النقاش حولها. إنكار ذلك هو كمن يرى النار مشتعلة في نصف الغابة ثم يقول: “لا أستطيع أن أقول إن الغابة تحترق لأن بعض الأشجار ما زالت خضراء!”
باختصار..
ليس كل تعميم جهل، وليس كل استثناء حكمة.
الصدق أحيانًا يجرح، لكنه يداوي.
والمجاملة الزائدة قد تحفظ صورتك، لكنها لا تصلح الواقع.
فلنقل الحقيقة كما نراها، ولنتحمل مسؤولية آرائنا بوعي، دون أن نرتدي قفازات لغوية تخنق الصراحة وتحجب النور.
أ. هيا الدوسري
@HAldossri30
عضو جمعية إعلاميون