ليس عادياً ذلك الذي استعرضه وزير الإعلام سلمان الدوسري في المؤتمر الحكومي حول أبرز مستجدات المملكة وإنجازاتها؛ فقد جاء حديثه كاشفًا عن رؤية تتجاوز الإحصاءات والمنجزات، نحو إعادة تعريف التنمية بوصفها منظومة معنى تسبق كونها منظومة أرقام، وهنا تتحول الرؤية من وثيقة تُدار إلى عقل حيّ يُنتج ويعيد إنتاج ذاته.
ومن هذا المنطلق فإن التنمية التي كانت تُقاس بالجداول الزمنية والخطط المرحلية، أصبحت اليوم تأخذ شكل حضارة تُختبر بقدرتها على البقاء والتجدد، لتنتقل من إدارة المبادرات إلى بناء بيئة قيم تجعل الاقتصاد حاملًا للكرامة، والتعليم مولّدًا للقدرة، والثقافة وعاءً للهوية، والصحة أساسًا لجودة الحياة، والإسكان ضمانًا للعدالة الاجتماعية والاستقرار.
ذلك التصور يُظهر أن معيار التقدم أصبح مرتبطًا بوفاء المملكة لنسختها الأفضل من ذاتها، فتتشكل بذلك هوية خاصة للتنمية السعودية، وتغدو التجربة مستقلة بمرجعيتها، قائمة على ما تضيفه للإنسان والمكان لا على موقعها في سباق خارجي، لتتحول المشاريع والمؤشرات إلى منظومة حياة نابضة بالروح.
ومع هذه الرؤية يتضح أن الخطاب الرسمي لم يعد يقدّم المنجز كأرقام، وإنما يطرحه كبنية فلسفية تربط بين الحاضر والمستقبل، بين القرار والبعد، وبين المشروع والهوية.
كل ذلك قائم على الثقة باعتبارها حجر الزاوية، فهي تنشأ من تصميم مؤسسي يراعي الوضوح والعدالة والشفافية. وكلما اتسقت القواعد ووضحت الأطر تراجعت الحاجة إلى ضجيج الخطاب، لأن الأداء ذاته يصبح لغة قائمة بذاتها.
وهنا يتحول الإعلام من وسيلة للتبرير إلى مرآة تعكس الاتساق، فيختصر السرد وتتعزز الموثوقية.
إنّ الإعلام الجديد في هذا السياق فضاء مشاركة، والمواطن شريك فاعل في صناعة المضمون، يوثّق ويحاور ويختبر ويقترح، فيما تتحول المنصات إلى بنية تحتية للثقة تُنضج الرأي العام وتخفض تكلفة القرار، وتعيد تشكيل العلاقة بين الجهات الحكومية والمجتمع عبر خطاب يتجاوز الاتجاه الواحد ليغدو تفاعلًا حيًا يصوغ المشاركة الوطنية.
والتقنية من جانبها تُفهم كمنظور قيمي، فالذكاء الاصطناعي لا يكتسب قيمته من قوة الخوارزميات وحدها، بل من المجتمع الذي يحتضنه، ومن الأهداف التي يوجَّه إليها. وهنا تصبح التقنية وسيلة لتحقيق عدالة الوصول ورفع جودة القرار، والسؤال يصبح عن الإنسان الذي تخدمه هذه التقنية وعن المجتمع الذي تعكسه، فتتحول التقنية إلى جزء من الفلسفة لا مجرد أداة في اليد.
وهنا الإنجاز يأخذ مقصد مختلفًا، فالسرعة وحدها لا تكفي، والقيمة تُقاس بقدرة السياسات على التراكم والاستمرار، وكل إنجاز يتحول إلى منصة لإنجاز أعظم، ومحطة تعلن بداية لا نهاية.
ومن هذا الأفق يتجلى مفهوم الاستدامة كقاعدة شاملة تجمع بين الشرعية الاجتماعية والاعتمادية المتبادلة والقدرة المؤسسية على التعلّم. فالإنجاز الحقيقي لا يقف عند لحظة إعلانه، لكنه يفتح طريقًا نحو خطوات جديدة تُراكم أثره وتوسع مداه.
ومع كل ذلك ترتقي العدالة لتصبح معيارًا للجمال، فعندما يُعاد تشكيل أسواق العمل والسكن والمعرفة على أساس التوازن بين الحق والكفاءة تولد جمالية مدنية جديدة، مدن تُرى فيها العدالة كما تُرى العمارة، مجتمعات يتجسد فيها الجمال في اتساع المظلة للجميع حيث تكون العدالة هنا شرط حياة قادرة على الجمع بين المختلفين، وجوهر في صميم التنمية.
الخطاب الوطني المتماسك في هذا الإطار هو البوصلة التي توجه المسار، لتعيد ترتيب الأولويات، وتمنح المجتمع لغة جامعة لقياس التقدم، وتجيب عن سؤال «لماذا نفعل» قبل أن تشرح «ماذا نفعل»، وتترك مساحة يشارك فيها الجميع في صياغة المستقبل.
ومن هذه الزاوية تبرز المملكة كصاحبة فلسفة تغيير تصنع الزمن بمشروع حضاري يربط التفاصيل الصغيرة بغاية أكبر، ويمنح كل قرار وزنه الأخلاقي والمعرفي، ويثبت أن الأمم العظيمة تُبنى بالذكاء الذي يحوّل الإنجازات إلى تراكم حضاري حي مستدام.
د. سطام ال سعد
@Sattam_Alsaad
عضو جمعية إعلاميون